لا يمكن للمراقب إلاّ ملاحظة العلاقة بين تعاظم الحضور السياسي الإماراتي في الإقليم، وموجة التطبيع العربي مع العدو الصهيوني.
يُمعن الاحتلال الصهيوني في جرائمه في فلسطين، وآخرها اغتيال ثلاثة شبّان في مدينة نابلس. عملية إعدام مخطَّطة حدثت في وضح النهار، وبثمانين طلقة؛ أي أنها استغرقت بعض الوقت. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ العدوّ أقدم عليها من دون أن يخشى رداً من أي جهة موجودة في الأرض، سواء القوات الأمنية التابعة لسلطة رام الله، أو الفصائل الفلسطينية الغارقة في صراعاتها البينية.
في موكب تشييع الشهداء، أُطلقت آلاف الطلقات سُدىً، وصدرت بيانات تزلزل الأرض وتتوعَّد العدو بالويل والثبور وعظائم الأمور. تبادلت الفصائل والسلطة الاتهامات، على خلفية الخلاف على التنسيق الأمني، والموقف من اجتماع المجلس المركزي، واتفق الطرفان على الطبيعة العدوانية للاحتلال. سجّل الكل مواقفهم “وانصرفوا راشدين” إلى منازلهم، في انتظار جريمة أخرى.
في اليوم التالي، شنّ العدو هجوماً صاروخياً على محيط دمشق، وسقط الجندي ذو الفقار منصور شهيداً. تصدت الدفاعات الجوية السورية للعدوان، وسقط بعض صواريخها على مدن فلسطينية. كالعادة، تكون بيانات الإدانة عندما يتعلق الأمر بسوريا شحيحة جداً. حتى القوى السياسية، التي تتبنّى مواقف متشددة من العدو الصهيوني، تكتفي في أغلب الأحيان بالصمت. أمّا البيانات القليلة، التي تصدر عن بعض القوى السياسية، فتكرر نفسها، وتذكّرنا بخطابات المختار في مسرحية “ضيعة تشرين”، فلقد حفظها الجميع، وأصبحت من قبيل رفع العتب لا أكثر ولا أقل.
قبل ذلك كله، شنت الآلة الحربية السعودية الإماراتية عدواناً إجرامياً على اليمن، أدى إلى سقوط أكثر من سبعين شهيداً. ران على العالم صمتٌ لا يقل قساوة عن الجريمة نفسها. حتى الأصوات، التي ارتفعت، أدانت اليمنيين وجيشهم. لا أتحدث هنا عن الجامعة العربية، التي استقالت منذ سنوات طويلة من دوريها العربي والجامع، لكن مَن منا توقع أن تُصدر الجزائر أو كوبا بيانا يُدين شعباً أعزل يتعرَّض للإبادة.
في حرب اليمن، اكتشفنا أن للإمارات العربية سطوة تتجاوز سطوة الولايات المتحدة الأميركية نفسها. دول وقوى سياسية لا تترك للولايات المتحدة شاردة أو واردة، من بحر الصين حتى القطب الشمالي، إلاّ وتُدينها وتُشبعها تحليلاً ودراسة، كلها صمتت أمام الجريمة الإماراتية في اليمن.
أينما نظرتَ، في الوطن العربي اليوم، تجد الإمارات العربية، في إسطنبول أو دمشق أو عمّان أو القاهرة أو “تل أبيب”. الإمارات شريكة الصين في مشاريع الطاقة، وهي تدعم بصورة غير مباشرة بناءَ سد النهضة الذي يُطْبِق الخناق على مصر والسودان. تُعَدّ الإمارات الدولة الثانية في تقديم المساعدات الاقتصادية إلى إثيوبيا، بالإضافة إلى استثمارات تقدَّر بملياري دولار في المشاريع الزراعية. كما قدّمت دعماً عسكرياً إلى الجيش الإثيوبي في مواجهة جبهة ثوار تيغراي. وكان رجل الإمارات، الفلسطيني محمد دحلان، ظهر في بداية العام الماضي إلى جانب رئيس الوزراء الإثيوبي في جولة قاما بها في بعض المناطق الإثيوبية، الأمر الذي يدلّ على التدخُّل الإماراتي الواسع في الشأن الإثيوبي.
على الرَّغم من ذلك، فإننا لا نسمع احتجاجاً مصرياً أو سودانياً على الدور الإماراتي، بل نسمع إشادة دائمة بهذا الدور، وهجوماً على من يحاول تسليط الضوء عليه، كما حدث مع النائب المصري ضياء الدين داوود، عندما أشار، في أحد خطاباته، إلى الدعم الإماراتي لإثيوبيا، من دون أن يذكر اسم الإمارات صراحة، فتعرَّض لهجوم حادّ كاد يصل إلى حدّ المشاجرة داخل المجلس، وشُطبت كلمته من محضر الجلسة، وتعرَّض لحملة قاسية في الإعلام المصري.
لا يمكن للمراقب إلاّ ملاحظة العلاقة بين تعاظم الحضور السياسي الإماراتي في الإقليم، وموجة التطبيع العربي مع العدو الصهيوني، والتي انطلقت من الإمارات، وتُوِّجت بالاتفاقيات الإبراهيمية. قبل تلك الموجة، نالت الإمارات من الإدانة ما نالته كلُّ أطراف العدوان على اليمن وسوريا وليبيا. أمّا اليوم فاختفت تلك الإدانات، وحلَّ محلها الصمت في أحسن الأحوال. الجميع اليوم مندفع إلى المشاركة في “إكسبو دبي”، وفي المَعارض والجوائز، بل حتى إلى المشاركة في تزوير التاريخ، ليصنع تاريخاً سحيقاً لدولة بالكاد مضى خمسون عاماً على تأسيسها.
عند بعض العرب، مثل يقول “قوم بلا جُهال، ضاعت حقوقهم”. إن الخلاف إذا تُرك دائماً للعقلاء، فإنه، في أغلب الأحيان، سينتهي بتسويات تحمل في طياتها خسارة لبعض الحقوق. فإذا تكرَّر الخلاف والعدوان، ضاعت الحقوق بدعوى التعقل وعدم المغامرة. أمّا إذا تدخل الجُهال بحماستهم وتسرُّعهم وغياب تفكيرهم في العواقب، وأحدثوا من الضرر ما يصعب إصلاحه، فإن العدو سيفكر أكثر من مرة قبل أن يعود إلى عدوانه.
ماذا لو أن جُهال فلسطين انهالوا بآلاف الطلقات، التي ذهبت سُدىً في الهواء، على الحواجز والمستوطنات الصهيونية؟ ماذا لو أحرقوا المراكز الأمنية التي تعجز عن حمايتهم في نابلس أو الخليل؛ لو خربوا ودمروا وأحرقوا؟ عندها، سيفكّر العدو وعملاؤه مرات ومرات قبل أن يُقْدِموا على جرائمهم بحق أبناء فلسطين.
ماذا لو تشكَّلت جبهة من الجُهّال العرب، من مثقَّفين ومحامين ومهنيين، وأخذت على عاتقها فضح الدور الإماراتي الإجرامي في اليمن، ودور أبو ظبي الجديد نقطةَ ارتكاز اقتصادي للمشروع الاستعماري – الصهيوني في المنطقة. لو قاطعوا جماعياً جوائزها ومَعارضها، وخاطبوا الهيئات الدولية والقانونية الدولية المعنية بحقوق الإنسان من أجل فضح جرائم الإمارات، والتواطؤ الدولي الصامت عن تلك الجرائم.
ماذا لو تَشَكَّل وفد من جُهّال العرب وسافر إلى دمشق، وأعلن، من مجلس عزاء الشهيد ذو الفقار منصور، وقوفه مع محور المقاومة، في كل أطرافه: سوريا وحزب الله وإيران واليمن.
ما نحتاج إليه اليوم جُهالٌ يحمون حقوقنا بعد أن أضاعها “العقلاء”، في حساباتهم ومصالحهم. وليَكُنْ شعار المرحلة: “يا جُهّال العرب اتَّحِدوا”.
(سيرياهوم نيوز-الميادين ١٩-٢-٢٠٢٢)