|
الاتهامات لترامب بإخفاء والاحتفاظ بوثائق رسمية، ضربة قاسية قد تقضي على مستقبله السياسي وأعماله التجارية معاً، بسبب خطورتها، والتي تعد أعظم وأشد من كل ما وقع فيه سابقاً.
يعيش الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذه الأيام، أصعب لحظات حياته السياسية، إلى حدّ أنه في التاريخ الحديث للولايات المتحدة، لم نشهد رئيساً لاحقته التهم والفضائح المتعددة وطغت على مسيرته، كما حصل مع ترامب، الذي بات سلوكه لا يختلف عن رجالات العصابات واللصوص والخارجين عن القانون.
فعلى مسافة شهور قليلة من موعد الانتخابات التشريعية النصفية التي يجهد ترامب وحزبه الجمهوري للفوز بها، للإمساك بمجلسي الشيوخ والنواب تمهيداً لجلوسه مجدداً على كرسي الرئاسة في الأغلب، وفي الوقت الذي يخضع فيه للمسائلة والتحقيق بقضايا تتعلق بالتحريض على اقتحام مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/يناير 2020، فضلاً عن التهرب الضريبي وغيرها من التُهم، تلقى الرئيس السابق المهزوم، ضربة قاسية قد تقضي على مستقبله السياسي وأعماله التجارية معاً، بسبب خطورة التهم الموجهة إليه، والتي تعد أعظم وأشد من كل ما وقع فيه سابقاً، ألا وهي تعريض الأمن القومي الأميركي للخطر، وذلك على خلفية احتفاظه وإخفائه وثائق وأوراق رسمية فائقة السريّة، كان صادرها جهاز “الاف بي اي” بعد غارة على مقر إقامته في “مار إيه لاغو” بولاية فلوريدا ليلة 8 آب/أغسطس الجاري.
وقبل الدخول في سرد تفاصيل الغارة، نستعرض تاريخ الصراع على الوثائق بين ترامب والجهات القانونية..
في الحقيقة، إن قضية مستندات ترامب ليست وليدة اللحظة، فالصراع على الوثائق المأخوذة من البيت الأبيض عندما غادر الرئيس السابق، منصبه، كان يختمر منذ أكثر من عام. وتعليقاً على ذلك، يوضح أحد الأشخاص المتورطين في النزاع بقضية الوثائق: “لقد كان هذا مثل قدر الماء الذي يغلي ببطء شديد، والآن يصدر هذا الضجيج حيث يصطدم بالموقد الساخن”.
يعود أصل الحكاية، إلى ربيع عام 2021، عندما كانت إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية، وهي الوكالة الحكومية المكلفة قانوناً بالحفاظ على أوراق الرؤساء السابقين، قد نبهّت إدارة فريق ترامب إلى وجود مشكلة. أثناء استعراض المواد المنقولة من البيت الأبيض في الأيام الأخيرة الفوضوية لرئاسة ترامب، لاحظ المسؤولون أن بعض الوثائق رفيعة المستوى مفقودة. أبرزها مراسلات ترامب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، التي وصفها بـ “رسائل الحب”، وخريطة دائرة الأرصاد الجوية الوطنية لإعصار دوريان.
وكون هذه السجلات الرئاسية، ملك للشعب الأميركي بموجب القانون المحلي. طلبت إدارة المحفوظات، من فريق ترامب إعادتها.
على ذمة أشخاص كانوا مطلعين على المحادثات بين ترامب وإدارة المحفوظات، كان الرئيس السابق متردداً في إعادة الوثائق، وتباطأ في تقدميها لأشهر. ومع تزايد استياء المسؤولين، وجّهوا له تهديداً في النهاية، بتنبيه الكونغرس، أو وزارة العدل.
في أعقاب هذا الإنذار، رضخ ترامب، في 17 كانون الثاني من هذا العام، وسمح لمقاول للأرشيف بتحميل 15 صندوقاً في Mar-a-Lago، وشحنها شمالًا إلى منشأة في ولاية ماريلاند، حيث احتوت الصناديق على بعض العناصر البارزة لرئاسة ترامب، التي سعى مسؤولو الأرشيف للحصول عليها.
الملفت، أنه وأثناء قيام مسؤولي الأرشيف بفحص الوثائق المسترجعة، بدأوا في الشك في أن بعض السجلات لا تزال مفقودة. كما أدركوا أيضاً أن بعض المواد التي تم إرجاعها كانت مصنفة بشكل واضح، بما في ذلك استخبارات الإشارات شديدة الحساسية، الاتصالات الإلكترونية التي تم اعتراضها، مثل رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية لقادة أجانب.
أثار كل هذا سخط إدارة المحفوظات الذين تساءلوا: هل لا تزال هناك سجلات سرية مخبأة في نادي فلوريدا الخاص بترامب؟
الجدير بالذكر، أنه على الرغم من أن الرؤساء يتمتعون بسلطة غير مقيدة لكشف أسرار أميركا، إلا أنهم يفقدون تلك السلطة، بمجرد مغادرتهم مناصبهم.
مطلع شباط الماضي، كان مسؤولو الأرشيف قد أحالوا الأمر رسمياً إلى وزارة العدل، ثم وصل الأمر إلى النائب العام ميريك غارلاند الذي أعطى الإذن بالتفتيش. في البداية، اعتقد مسؤولو الأرشيف أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يأخذ قضية الوثائق على محمل الجد وأصيبوا بالإحباط، وفقاً لأشخاص مطلعين على النزاع المتعلق بالوثائق.
لكن عملاء FBI أجروا مقابلات مع مستشاري ترامب الحاليين والسابقين، وسألوهم عن كيفية تعبئة الصناديق التي تم نقلها إلى Mar-a-Lago، وما هي المواد الموجودة فيها؟ ومن المسؤول عن التعبئة؟ وما قد يكون لا يزال في نادي فلوريدا؟ والكلام هنا لأحد الأشخاص الذين تم استجوابهم.
وقائع الإغارة على “مار إيه لاغو”، وكيف تعامل معها ترامب ومستشاروه؟
بينما كان عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي يتوجهون إلى نادي دونالد ترامب في فلوريدا صباح 8 آب/أغسطس الحالي لإجراء بحث عن وثائق حكومية سرية للغاية – وافق عليها قاضٍ فيدرالي وطلبها المدعي العام للولايات المتحدة – كان الرئيس السابق يجتمع بالفعل مع محاميه في برج ترامب في نيويورك، على بعد 1000 ميل.
الاجتماع كان مخصصاً لمناقشة مسألة مختلفة تماماً، وهي تحقيق مدني في أعمال عائلة ترامب. في تلك اللحظة، وردت مكالمة هاتفية – أدت إلى إيقاف الجلسة – لإبلاغ الرئيس السابق بالأحداث الاستثنائية التي تتكشف في ناديه في مارالاغو، حسبما قال رون فيشيتي، محاميه في نيويورك.
على الفور، أصيب ترامب وحلفاؤه المقربون بالذهول بسبب الأحداث الجارية بمقر إقامته. كشفت كريستينا بوب، إحدى محامياته، لشبكة فوكس نيوز، إن البعض راقب “الاف بي اي” عبر كاميرات المراقبة الأمنية، أثناء قيامهم بتفتيش مكتب ترامب وحجراته الشخصية ومرفق تخزين في الطابق الأول.
في هذه الأثناء كان ترامب مشتت الذهن، ويتنقل بين هاتف وآخر، محاولاً معرفة سبب قيام العملاء، بالتجوال في المنشأة الساحلية التي حاول وصفها “البيت الأبيض الشتوي”، وكانت مغلقة في الغالب في الصيف.
تركت الغارة مرارة وألماً في نفوس فريق ترامب، الذي ظل صامتاً طوال اليوم – حتى الساعة 6:51 مساءً، عندما أكد ترامب نفسه الغارة في بيان منمق، معتبراً أنها غير مبررة وذات دوافع سياسية، وقال لأنصاره “لقد اقتحموا خزنتي”!
بالنسبة لترامب، فتحت الغارة فصلاً جديداً في علاقته المضطربة أصلًا مع السلطات القانونية؛ إذ إن نقاط الضعف المتراكمة في سجله، توسعت إلى ما هو أبعد من التحقيقات التي تم نشرها، ومازلت مستمرة، في مسألة تورطه بالتحريض وإثارة البلبلة لإلغاء انتخابات عام 2020، وفي قضية التهم بأعماله الشخصية.
ما الذي كان عملاء “الاف بي اي” يبحثون عنه تحديداً؟
استنادا لمذكرة التفتيش، كان العملاء في Mar-a-Lago يسعون للحصول على أدلة على 3 انتهاكات محتملة للقوانين الفيدرالية:
1- جزء من قانون التجسس الذي يجرم امتلاك أو مشاركة أسرار الدفاع الوطني دون إذن.
2- قانون ضد التدمير أو إخفاء المستندات لإفشال التحقيق.
3- قانون ضد سرقة أو إتلاف أو تشويه السجلات الحكومية.
عندما غادر ترامب منصبه، كان المسؤولون الحكوميون قلقين من إقدامه على تعريض، ما اعتبره الخبراء الملف المثالي للخطر الأمني. فهو برأيهم كان موظفاً سابقاً ساخطاً، يتمتع بإمكانية الوصول إلى أسرار حكومية حساسة، عازماً على هدم ما كان يعتقد أنه دولة عميقة للحصول عليها. زد على ذلك، أن ترامب، كان أمضى سنوات في تغذية وزيادة الشرخ وتوسيع الهوة، وترسيخ عدم الثقة بين مؤيديه، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل.
للوهلة الأولى، ظنّ ترامب التفتيش الذي أذنت به المحكمة، لحظة رائعة يجدر به استثمارها وتقمّص دور المظلومية، خصوصاً وأنه يخضع للتحقيق من قبل المدعين العامين في الولايات، والمدعين الفيدراليين بشكل مستمر تقريباً منذ أن أدى اليمين الدستورية في عام 2017.
مباشرة بعد الغارة، بدا أن ترامب يعتقد أن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد لعب لصالحه. بدلاً من إظهار أي قلق، كشف شخصان تحدثا إليه مساء الإثنين، أن ترامب كان “متفائلاً”، ومقتنعاً بأن وزارة العدل قد بالغت في الأمر وستجعل الجمهوريين يحتشدون لقضيته ومساعدته على استعادة الرئاسة في عام 2024.
لكن ما لم يحسبه ترامب جيداً، أن ما بدأ كنزاع منخفض المستوى حول حفظ سجلات البيت الأبيض الفوضوي والعشوائي، سرعان ما تحول، إلى تحقيق خطير للغاية حول ما إذا كان الرئيس السابق قد عرض الأمن القومي للخطر من خلال تخزين وثائق سرية للغاية، بعضها يحتمل أن يكون مرتبطاً بالأسلحة النووية.
نقل أصدقاء ترامب عنه – كان تحدث الى أنصاره ومستشاريه مرارًا وتكرارًا خلال الأسبوع الماضي – “أنه يشعر أنه انقلاب سياسي بالنسبة له”.
نهار الأربعاء الماضي في 10 آب/أغسطس، جلس ترامب للادلاء بإفادته أمام المدعي العام في نيويورك، ليتيتيا جيمس (ديمقراطية)، التي تحقق في تعاملاته التجارية قبل الرئاسة. خلال ذلك، تطرق إلى غارة Mar-a-Lago حيث استند إلى حقه في التعديل الخامس ضد تجريم الذات أكثر من 400 مرة.
المفارقة أنه، لسنوات، سخر ترامب من الآخرين الذين أخذوا القرار الخامس، بحجة أنها علامة على الذنب، وقال “إذا كنت بريئاً، فلماذا تأخذ التعديل الخامس؟” أكثر من ذلك، تهكم على خصمه، هيلاري كلينتون، في عام 2016.
لكن ترامب نفسه، لجأ الى هذا التعديل، رداً على تصرفات مكتب التحقيقات الفيدرالي في فلوريدا، وأصر على أنه كان مستهدفًا من قبل المدعين العامين، وبالتالي يجب أن يبقي فمه مغلقاً.
بحلول نهار الجمعة 12 آب/أغسطس الجاري، أظهرت سجلات المحكمة غير المختومة، أن الوكلاء استولوا على 11 مجموعة من الوثائق السرية، من بين أمور أخرى. هنا، أصبحت صيحات احتجاج الجمهوريين أكثر هدوءاً إلى حد ما، حيث كشف أحد الأشخاص المحيطين بترامب أن مزاجه الهادئ تحول أحياناً إلى متعكر.
لماذا كان ترامب يحتفظ بالوثائق الرسمية؟
لمعرفة ذلك يجب أن نطلع على شهادة مسؤولين سابقين وأبرزهم مستشاره بولتن.
مع تقدم المناقشات، أكد بعض مسؤولي إنفاذ القانون الاشتباه بأن ممثلي ترامب لم يكونوا صادقين في بعض الأحيان، وعلى الرغم من شهور المحادثات، كان ترامب لا يزال محتفظاً بالوثائق والعناصر الأخرى التي تنتمي بشكل صحيح إلى الأرشيف، وقد أيدهم في ذلك عدد من المسؤولين السابقين الذين كانوا مقربين من ترامب.
ففي إدانة غير مباشرة لترامب، من قبل رئيس الأركان السابق جون إف كيلي، اعترف الأخير، أن الرئيس السابق، أظهر منذ فترة طويلة عدم احترام القواعد الصارمة للتعامل مع الوثائق المقدسة لمجتمع الاستخبارات، الذي يعمل في مجال حراسة الأمن القومي للبلاد.
كلام ميلي تقاطع مع ما كشف أحد مستشاريه، من أن إحجام الرئيس السابق عن التخلي عن السجلات، ينبع من اعتقاده بأن العديد من العناصر التي تم إنشاؤها خلال فترة ولايته – الصور والملاحظات وحتى نموذج للطائرة الرئاسية التي تم بناؤها – هي الآن ملكه، وأضاف المستشار: “لقد أعطاهم ما يعتقد أنه ملكهم”.
أما الأدانة الأبلغ، فقد جاءت من مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون الذي قال “لن يفاجئني شيء تقريباً بشأن ما هو موجود في الوثائق في Mar-a-Lago”. وأشار إلى أن ترامب كان يطلب في بعض الأحيان الاحتفاظ بالمساعدات البصرية والصور والمخططات والرسوم البيانية العالية السرية والمعدة لإغناء موجزه الرئاسي اليومي، وهي وثيقة تُقدم له كل يوم حول القضايا الملحة الرئيسية، والتي لم يقرأها عادةً.
وتابع بولتن “كان ترامب يعيدها (أي الوثائق) عادة – لكن في بعض الأحيان لا يردها”. وعلى المنوال ذاته، قال مستشارون آخرون إنهم شاهدوا ترامب بانتظام وهو يدمر الوثائق، سواء في البيت الأبيض أو في مار إيه لاغو.
هل سيتم تجريم ترامب فعلاً؟
في اليوم ذاته، أي في 12 آب/أغسطس، وافق قاض اتحادي في ويست بالم بيتش على مذكرة التفتيش. وهذا يعني (برأي الخبراء الدستوريين الأاميركيين) أن القاضي راجع ملفاً مختوماً يصف الخطوات المتخذة في التحقيق حتى الآن، ووجد أن هناك سبباً محتملاً لوجود أدلة على ارتكاب جريمة (إخفاء وثائق) في ملكية النادي التي تبلغ مساحتها 17 فداناً.
في الساعة 6:19 من مساء ذلك اليوم، وقعت محامية ترمب كريستينا بوب على إيصال من 3 صفحات يصف السجلات التي تم أخذها بعيداً، 11 مجموعة من المستندات السرية، والعديد منها سري للغاية، من ضمنها معلومات عن رئيس فرنسا ايمانيول ماكرون. كما كان على رأس القائمة أمر تنفيذي للعفو لروجر ستون، وهو صديق قديم لترامب ومستشار سياسي أدانته هيئة محلفين بالسعي لعرقلة تحقيق في الكونغرس في التدخل الروسي في انتخابات عام 2016.
في الختام، وراء الكواليس، بدأ حلفاء ترامب عملية البحث عن محامين جدد قد يكونون أكثر خبرة في المعركة المعقدة مع وزارة العدل التي كانوا يعلمون أنها على وشك أن تبدأ. إذ كان هناك إدراك متزايد، من قبل المستشارين المقربين لترامب، أن الرئيس السابق يمكن أن يخوض “معركة كبيرة لفترة طويلة”. خصوصاً وأن وزارة العدل، وجهت له صفعة كبرى من خلال أمر استدعائه أمام هيئة محلفين كبرى.
حالياً يعتبر ترامب أنه وقع في مأزق مألوف. وخلال الأيام الماضية، ازداد غضبه، وكان يصرخ في بعض الأحيان بألفاظ نابية للمستشارين بشأن مكتب التحقيقات الفيدرالي وكيف خرجوا “للإيقاع به”. فهل وقع ترامب فعلاً؟ هذا ما سيكشفه القادم من الأيام…
سيرياهوم نيوز3- الميادين