آخر الأخبار
الرئيسية » قضايا و تحقيقات » مأزق الكشف عن هويات الجناة في سوريا

مأزق الكشف عن هويات الجناة في سوريا

ينبع التوتر في مسألة الإفصاح عن هويات الجناة من تعارض مبادئ أخلاقية وقانونية متساوية في الأهمية والشرعية النظرية. فمن جهة، يعد الحق في معرفة الحقيقة من الحقوق الإنسانية الأساسية التي رسخها القانون الدولي؛ وهو لا يقتصر على معرفة ما وقع من أحداث، بل يمتد ليشمل معرفة هوية مرتكبي الانتهاكات ودوافعهم والأنماط التي حكمت ارتكابها.

ومن جهة مقابلة، يشكل مبدأ افتراض البراءة ركنا مركزيا في النظم القانونية الحديثة، غايته حماية الأفراد من الإدانة الاجتماعية، أو من أي تبعات ضارة قبل ثبوت الذنب قضائيا وفق ضمانات المحاكمة العادلة.

ويتضاعف تعقيد هذا التوتر في السياقات الانتقالية التي تفعّل فيها آليات تقصي الحقائق في ظل ضعف المؤسسات القضائية أو تسييسها، وتقلص فرص المساءلة الجنائية أو انعدامها.

وفي مثل هذه الظروف قد ينظر إلى الإفصاح العلني عن أسماء الجناة المزعومين بوصفه المسار الوحيد المتاح لتحقيق قدر من المساءلة العامة، بما يمنحه قيمة أخلاقية تتجاوز مجرد الاستجابة للاهتمام العام.

وقد تطورت هذه الإشكالية بصورة بارزة خلال العقود الأربعة الماضية، بالتوازي مع اتساع دور التحقيقات الدولية وتنوع أدواتها: من بعثات الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، إلى لجان الحقيقة الوطنية، وصولا إلى المحاكم الدولية والآليات المختلطة.

ورغم تراكم خبرات ومعارف غنية في كيفية التعامل مع هذه المعضلة، فإنها لم تنتج حلولا قاطعة ونهائية، بقدر ما بلورت أطرا تحليلية ومنهجيات تعين على اتخاذ قرارات مدروسة ومتوازنة تراعي اختلاف السياقات.

الأساس القانوني للحقوق المتعارضة

تستند الحقوق المتعارضة في مسألة الإفصاح إلى مبادئ راسخة في القانون الدولي لحقوق الإنسان؛ فقد تبلور الحق في معرفة الحقيقة عبر اجتهادات المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان وممارسات هيئات المعاهدات الدولية، بوصفه عنصرا جوهريا في الحق في الانتصاف الفعال، وشرطا لاستعادة الثقة العامة بالمؤسسات ومنع تكرار الانتهاكات.

إعلان

وفي المقابل، يمثل مبدأ افتراض البراءة- المنصوص عليه في المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية- ضمانة أساسية ضد التعسف والظلم.

ولا ينحصر أثر هذا المبدأ في الإجراءات الجنائية الرسمية فحسب، بل يمتد، في جوهره، إلى أي إجراء مؤسسي يمكن أن يترتب عليه مساس جوهري بسمعة الفرد أو حقوقه، بما يفرض احترازا مضاعفا عند نشر معلومات محددة للهوية.

وفي هذا الإطار، يؤدي الكشف العلني عن هويات الجناة وظائف متعددة لا تختزل في إرضاء الفضول أو تغذية نزعات انتقامية. فهو، يعبر عن اعتراف مؤسسي بمعاناة الضحايا وتثبيت رسمي لرواياتهم.

وفي الحالات التي شهدت إنكارا ممنهجا للانتهاكات لسنوات طويلة، تكتسب قيمة هذا الاعتراف بعدا رمزيا وتعويضيا قد يفوق أحيانا أثر التعويضات المادية. كما يسهم الإفصاح في بناء سجل تاريخي موثوق ودائم، يشكل مرجعا للأجيال القادمة، ويحصن الذاكرة العامة ضد محاولات الإنكار أو تحريف الوقائع.

قد يؤدي الكشف العلني عن الأسماء إلى تعريض الشهود أو أسرهم لمخاطر انتقامية، بما في ذلك احتمالات الوصم والتهديدات المتراكمة وتبدل موازين القوة محليا

الردع والوقاية: الأبعاد الإستراتيجية للإفصاح

تتجاوز أهمية الإفصاح عن أسماء الجناة الوظيفة الرمزية أو التوثيقية لتأخذ بعدا إستراتيجيا مباشرا يتصل بالردع والوقاية من تكرار الانتهاكات.

فالكشف العلني يوجه إلى الجناة المحتملين رسالة واضحة، مفادها أن الانتهاكات لن تبقى بلا تبعات، حتى عندما تتعثر العدالة الجنائية أو تتأخر.

وفي البيئات التي تضعف فيها سيادة القانون وتتراجع فيها فاعلية المؤسسات، قد يغدو العزل الاجتماعي وفقدان الشرعية العامةـ بما يشمله ذلك من نبذ مجتمعي وتقييد فرص النفوذـ الأثر الأكثر واقعية على المدى القصير، بوصفه بديلا مؤقتا عن الردع القضائي الكامل.

وفضلا عن ذلك، قد يفتح الإفصاح مسارات إضافية نحو المساءلة القانونية وطنيا ودوليا، عبر تحويل المعرفة العامة إلى ضغط قابل للترجمة إلى إجراءات. فقد يدفع ضغط الرأي العام السلطات المحلية إلى تحريك دعاوى أو توسيع نطاق التحقيقات، كما يمكن أن يعزز قابلية توظيف المعلومات في أطر المساءلة الدولية، بما في ذلك العقوبات الموجهة والتدابير التقييدية وغيرها من الآليات التي تسهم في تضييق هوامش الإفلات من العقاب، ولو بصورة تدريجية، إلى حين توافر شروط المحاكمة الفعالة.

وفي مقابل هذه الوظيفة الردعية، يظل التمييز بين وظيفة التحقيق ووظيفة المحاكمة الجنائية عنصرا حاسما في ضبط نطاق صلاحيات ومسؤوليات هيئات تقصي الحقائق. فهذه الهيئات، على الرغم من امتلاكها صلاحيات واسعة في جمع المعلومات وتوثيق الوقائع وتحليل الأنماط، لا تتمتع بالولاية القضائية التي تخولها الفصل في المسؤولية الجنائية الفردية وإصدار أحكام إدانة.

ويرتبط ذلك بطبيعتها بوصفها آليات شبه قضائية تعمل عادة ضمن أطر إجرائية ومعايير إثبات لا ترقى إلى الصرامة المعتمدة أمام المحاكم الجنائية، ولا تتيح بالضرورة ضمانات التقاضي الكاملة التي تعد شرطا لازما لإسناد الإدانة.

ويقتضي هذا التمييز درجة عالية من الدقة والانضباط في صياغة النتائج المتعلقة بالمسؤولية الفردية. فحتى عندما تكون المؤشرات قوية على تورط أشخاص بعينهم، ينبغي التعبير عنها بصيغ تحافظ على الفصل بين الاستنتاج التحقيقي والإدانة القضائية، وتجنب لغة القطع والنهائية، مع اعتماد تعبيرات تعكس مستوى الترجيح المدعوم بالأدلة المتاحة وحدودها.

إعلان

ويحقق ذلك غايتين متلازمتين: احترام المبادئ القانونية الأساسية، وحماية فرص المساءلة القضائية لاحقا عبر عدم تلويث الإجراءات المستقبلية بأحكام مسبقة، أو توصيفات قد تستغل للطعن في العدالة أو نزاهة المسار القضائي.

ضمانات حقوق الدفاع والمواجهة وحماية الشهود

تثير ممارسة الإفصاح عن أسماء الجناة المزعومين في تقارير التحقيق تحديات جوهرية تتصل بحقوق الدفاع، بما في ذلك حق الشخص المعني في الإحاطة بما ينسب إليه والرد عليه، وحق الاستعانة بمحامٍ، وحق مواجهة الشهود واستجوابهم.

ورغم أن هيئات التحقيق ليست ملزمة بتطبيق كامل الضمانات الإجرائية التفصيلية للمحاكم الجنائية، فإن مقتضيات العدالة الطبيعية والإنصاف الإجرائي تفرض توفير حد أدنى من هذه الضمانات متى ترتب على النشر مساس بالغ بالسمعة أو الحقوق، أو المركز القانوني للأفراد. ويزداد هذا المطلب إلحاحا حين يفهم الإفصاح، في الوعي العام، بوصفه حكما ضمنيا لا مجرد استنتاج تحقيقي قابل للمراجعة.

وفي هذا الإطار، طورت بعض هيئات التحقيق ترتيبات توفيقية تسعى إلى المواءمة بين حق الرد ومتطلبات حماية المصادر. ومن أمثلة ذلك تمكين الأشخاص المعنيين من تقديم ردود مكتوبة قبل النشر، أو إدراج ملاحظاتهم ضمن التقرير بصياغات منضبطة، أو منحهم فرصة الاطلاع على خلاصات المزاعم والمعطيات الأساسية دون كشف مواد قد تمكن من تحديد هوية الشهود، أو تعرضهم للخطر.

ومع ذلك، تبقى هذه التدابيرـ من حيث نطاق الضمانات وعمقهاـ أضيق بكثير من ضمانات المحاكمة الجنائية الكاملة، ولا يجوز تقديمها بوصفها بديلا مكافئا، بل بوصفها حدا أدنى يخفف من مخاطر الإضرار غير المبرر بالحقوق.

وتعد حماية الشهود والضحايا أولوية قصوى في أي تحقيق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، وتتضاعف هذه الأولوية عندما يحتفظ الجناة المزعومون بنفوذ فعلي أو قدرة على التأثير.

وقد يؤدي الكشف العلني عن الأسماء إلى تعريض الشهود أو أسرهم لمخاطر انتقامية، ولا سيما عندما يمكن استنتاج الصلة بين شهادات بعينها وبين هوية المشتبه به، سواء عبر سياق الوقائع أو موقعها الجغرافي أو طبيعة العلاقات الاجتماعية.

ومن ثم، يتعين اعتماد بروتوكولات أمنية محكمة لا تقتصر على تقدير المخاطر الفورية، بل تمتد إلى تقدير الآثار طويلة الأمد على الشهود وبيئاتهم الاجتماعية، بما في ذلك احتمالات الوصم والتهديدات المتراكمة وتبدل موازين القوة محليا.

تطور ممارسات الأمم المتحدة

شهدت ممارسات بعثات الأمم المتحدة لتقصي الحقائق تطورا ملحوظا خلال العقود الثلاثة الماضية، عبر الاستفادة من دروس تجارب متباينة. وقد أسفر هذا التطور عن مقاربة عملية تسعى إلى الموازنة بين الشفافية والمساءلة من جهة، ومتطلبات الحماية وضمانات الإجراءات القانونية من جهة أخرى.

ويتمثل أحد تعبيرات هذه المقاربة في نموذج “النقل السري الموجه”، حيث تعد بعثات تقصي الحقائق قوائم مفصلة بأسماء الجناة المزعومين مدعومة بالمواد التوثيقية، ثم تحال بصورة سرية إلى جهات مختصة مثل المفوض السامي لحقوق الإنسان أو سلطات ادعاء وطنية ودولية.

ويتيح هذا النموذج حفظ المعلومات لاستخدامها في مسارات قضائية لاحقة، مع تجنب المخاطر المترتبة على الكشف العلني المباشر.

حتى عندما تكون المؤشرات قوية على تورط أشخاص بعينهم، ينبغي التعبير عنها بصيغ تحافظ على الفصل بين الاستنتاج التحقيقي والإدانة القضائية، وتجنب لغة القطع والنهائية

تجارب لجان الحقيقة: التنوع قاعدة لاستخلاص الدروس

توفر تجارب لجان الحقيقة في العالم مختبرا غنيا لفهم أثر السياقات المحلية على قرارات الإفصاح؛ فمن نموذج الشفافية العالية الذي عرف به مسار جنوب أفريقيا، إلى نماذج أكثر تحفظا في بعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، يظهر تباين واضح يعكس اختلاف البيئة السياسية والقانونية والثقافية لكل حالة.

وتؤكد هذه الخبرات أن لا نموذجَ واحدا يصلح لجميع السياقات، وأن نجاح أي مقاربة رهين بعوامل متداخلة: طبيعة الصراع أو النظام السابق، قوة القضاء واستقلاله، مستوى الدعم السياسي والاجتماعي، والتوازنات التي تحكم المرحلة الانتقالية. كما تظهر أن قرار الإفصاح ينبغي أن يكون جزءا من إستراتيجية عدالة انتقالية متكاملة، لا إجراء معزولا أو منفصلا عن بقية المسارات.

النموذج التسلسلي: التدرج الزمني بوصفه حلا توفيقيا

يمثل اعتماد النماذج التسلسلية أحد أبرز الابتكارات المنهجية في معالجة معضلة الإفصاح عن هويات الجناة؛ وتقوم هذه النماذج على فرضية مفادها أن بلوغ أهداف العدالة الانتقالية يصبح أكثر واقعية وفاعلية حين ترتب زمنيا وفق أولويات قابلة للتحقق، بدل السعي إلى إنجازها دفعة واحدة، وما يستتبعه ذلك من تعارضات عملية وأمنية وقانونية.

 

 

وبمقتضى هذا النهج، تخصص المرحلة الأولى لتوثيق الانتهاكات وتحليل أنماطها وتثبيت الاعتراف بالضحايا، مع إبقاء هويات الجناة سرية أو مقيدة التداول ضمن نطاق مهني ضيق. ثم تفتح مرحلة لاحقة للإفصاح المنضبط عن الهويات وتفعيلها في مسارات المساءلة، متى تحسنت البيئة المؤسسية وتوافرت الضمانات الإجرائية والأمنية اللازمة.

ويتيح هذا التدرج تحقيق توازن بين الحق في الحقيقة من جهة، ومتطلبات السلامة وقرينة البراءة من جهة أخرى، دون التضحية بمقومات العدالة أو تعريض الأشخاص المعنيين والشهود لمخاطر غير محسوبة.

وفي السياق ذاته، شهدت السنوات الأخيرة تطورا ملحوظا في منهجيات اتخاذ القرار بشأن الإفصاح، تجلى في بروز أطر “التناسب” بوصفها مقاربة معيارية لتعزيز الاتساق وقابلية التبرير.

وتقوم هذه الأطر على تقييم منهجي لعوامل محددة في كل حالة، من أهمها قوة الأدلة ومصداقيتها، جسامة الانتهاكات واتساع نطاقها، مستوى المسؤولية والسلطة لدى الشخص المعني، حجم المخاطر الأمنية على الشهود والمحققين، مدى إمكانية الإحالة إلى محاكمة في الأفق المنظور، الأثر المحتمل على مسارات السلام والمصالحة، والقيمة المضافة للإفصاح مقارنة ببدائل أقل ضررا.

ومن خلال وزن هذه العوامل بصورة منهجية، تستطيع الهيئات المختصة الوصول إلى قرارات أقرب إلى الموضوعية والشفافية، مع الإبقاء على المرونة الضرورية للتعامل مع الحالات الاستثنائية التي لا تستقيم مع قوالب جامدة.

وعلى هذا الأساس، يبرز ميل متزايد نحو نماذج هجينة تجمع بين مزايا المقاربات المختلفة وتخفف من نقائصها، عبر تصميم آليات مركبة تستجيب لخصوصية السياقات وتباين احتياجات أصحاب المصلحة. ومن أمثلة ذلك الإفصاح التدريجي عن الهويات وفق مستويات المسؤولية، بحيث يعلن عن أسماء كبار المسؤولين عندما تتوافر أدلة حاسمة أو تستكمل متطلبات الإثبات القضائي، مع الإبقاء على السرية أو القيود الصارمة فيما يتصل بالمستويات الأدنى أو الحالات الأضعف من حيث السند الإثباتي.

كما يمكن اعتماد “الإفصاح المشروط”، بحيث لا تكشف معلومات محددة إلا عند تحقق معايير معلنة تتعلق بضمانات أمنية وإجرائية واضحة، بما يقلل من أخطار الإضرار بالحقوق أو تعريض الشهود للخطر.

التحديات القائمة وآفاق المستقبل

على الرغم من مزايا النماذج القائمة على السرية أو النقل الموجه، فإنها تواجه تحديا جوهريا يتمثل في محدوديتها في تلبية حاجة الضحايا إلى اعتراف علني وفوري بمعاناتهم وبالمسؤولين عنها. وتبين الخبرات العملية أن الاعتراف العلني عنصر مؤثر في التعافي النفسي والاجتماعي، وأن غيابه قد يقوض ثقة الضحايا بمسارات العدالة الانتقالية ويضعف مشاركتهم فيها.

وللتخفيف من هذه الفجوة، يمكن تطوير آليات موازية تحقق التصديق والاعتراف دون اشتراط الكشف عن الهويات، مثل جلسات الاستماع العلنية للضحايا، وإصدار تقارير تفصيلية تثبت الوقائع دون أسماء، واعتماد برامج ذاكرة عامة كالنصب التذكارية والمتاحف، أو إدراج تاريخ الانتهاكات ومعاناة الضحايا في برامج تعليمية منهجية.

 

 

 

 

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الجزيرة

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في يوم واحد .. ثلاثة حوادث سير مروعة تحصد 11 ضحية

سليمان خليل   الكوارث المرورية جراء حوادث السير حصدت اليوم 4 طلاب جامعيين على طريق حمص دمشق – و 2 على نفس الطريق، و5 ضحايا ...