آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » مؤشر البيتزا: حين تُفرد عجينة السياسة على طاولة العشاء

مؤشر البيتزا: حين تُفرد عجينة السياسة على طاولة العشاء

 

د. سلمان ريا

من بين الظواهر الطريفة التي راجت في عالم الاستخبارات والسياسة الدولية، يطلّ علينا ما يعرف باسم “مؤشر البيتزا”. وللوهلة الأولى يبدو المصطلح أقرب إلى نكتة طلابية أو دعاية لمطعم، لكنه في الحقيقة ينتمي إلى عالم أكثر جدية: عالم التوقعات المبكرة للأزمات. جوهر الفكرة أن زيادة الطلب على البيتزا في محيط البنتاغون أو المراكز الحكومية الحساسة في ساعات الليل قد يكون علامة على أن شيئًا غير عادي يحدث خلف الجدران المغلقة.

ترجع القصة إلى زمن الحرب الباردة، حين كانت أجهزة الاستخبارات السوفيتية تبحث عن أي إشارة لفهم سلوك خصومها الأمريكيين. لم يكن بالإمكان دائمًا اختراق الاجتماعات السرية أو التجسس على المراسلات العسكرية، لكن يمكن مراقبة محيط تلك المؤسسات. وهنا ظهرت الملاحظة الطريفة: إذا نشطت مطاعم البيتزا القريبة من البنتاغون بشكل استثنائي في الليل، فهذا يعني أن الموظفين العسكريين والإداريين يعملون لساعات إضافية، وأن قرارات طارئة قيد النقاش. هذه الملاحظة البسيطة تحولت مع الوقت إلى رمز، وربما إلى “أسطورة تحليلية”، لكنها عكست حاجة المحللين إلى ربط أبسط الظواهر الحياتية بتقلبات السياسة العالمية. فكما كانت طوابير السيارات أمام محطات الوقود علامة على أزمات الطاقة، صارت علب البيتزا إشارةً على أزمات السياسة الدولية.

والطريف أن هذا “المؤشر” لم يختفِ بعد نهاية الحرب الباردة، بل ظل يطلّ برأسه في لحظات التوتر. فعند غزو العراق للكويت عام 1990، ترددت إشاعات عن ارتفاع مفاجئ في الطلبات الليلية بمحيط وزارة الدفاع الأمريكية. وفي أبريل 2024، حين ردّت إيران بصواريخ على إسرائيل، تناقل ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا وتعليقات تسخر من أن “البيتزا تتحرك أسرع من الصواريخ”. أما في يونيو 2025، مع التصعيد الكبير بين إسرائيل وإيران، فقد عادت القصة مجددًا حين تحدثت تقارير غير رسمية عن نشاط غير اعتيادي لمطاعم واشنطن في الليالي التي سبقت الضربة الإسرائيلية على منشآت إيرانية.

المؤسسة العسكرية الأمريكية، بطبيعة الحال، لم تمنح هذه الحكاية أي مصداقية. بل ذهب متحدث باسم البنتاغون إلى السخرية من الأمر بالقول: “لدينا في الداخل مقاهٍ وسوشي وساندويشات وقهوة، ولسنا بحاجة إلى البيتزا لنخطط للحروب.” ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام والجمهور ينجذبون دائمًا إلى هذه القصة لأنها تحمل لمسة إنسانية ساخرة في عالم مملوء بالخرائط والبيانات العسكرية الجامدة.

لكن البيتزا لم تكن في أي يوم سببًا لحرب أو نتيجة لها، بل كانت انعكاسًا جانبيًا لظروف العمل. فالارتباط بين الطلبات المتزايدة والأزمات الدولية لا يعني وجود علاقة سببية، وإنما وجود عامل ثالث يفسّر كليهما: الأزمة نفسها. الموظفون يعملون لساعات طويلة بسبب حدث طارئ، فيلجأون إلى الطعام السريع، والبيتزا هي الوجبة الأكثر عملية. تمامًا كما يطلب الطلاب بيتزا ليلة الامتحان، لكن لا أحد يتهم البيتزا بأنها وراء رسوبهم أو نجاحهم.

رغم تفاهة الظاهرة للوهلة الأولى، فإن “مؤشر البيتزا” يعكس ميلًا بشريًا عميقًا للبحث عن علامات مبكرة للأحداث الكبرى. نحن كبشر نكره المفاجآت، ونحاول دومًا قراءة المستقبل من خلال إشارات صغيرة، حتى لو كانت عابرة أو هامشية. لهذا تحوّل هذا المؤشر إلى ما يشبه الأسطورة الإعلامية: نكتة يتداولها المحللون، لكنها في الوقت نفسه نافذة على طريقة تفكير المجتمعات في ظل الخوف من المجهول. الإعلام يجد في هذه القصة مادة جذابة لأنها تربط بين الحياة اليومية والسياسة الدولية، وتقدم للأحداث المعقدة صورة بسيطة يمكن للقارئ العادي أن يتفاعل معها. فمن الأسهل أن نتخيل الجنرالات يخططون للحرب فوق طاولة تتكدس عليها علب البيتزا، من أن نغوص في تعقيدات الجداول العسكرية وملفات الأقمار الصناعية.

وربما تكمن جاذبية القصة في هذا البُعد الإنساني. خلف القرارات الاستراتيجية الكبرى هناك دائمًا أشخاص عاديون يجلسون لساعات طويلة، يحتاجون إلى وجبة تسد رمقهم. البيتزا، في هذه الصورة، تصبح رمزًا للطبيعة البشرية التي لا تختفي حتى في أوج الأزمات. إن ما يثير الضحك هنا هو التناقض بين ضخامة القرارات وخفة التفاصيل المصاحبة لها.

وإذا تجاوزنا الطرافة، نجد أن “مؤشر البيتزا” يسلط الضوء على قضية أوسع: الحاجة الدائمة إلى المؤشرات غير التقليدية في التحليل السياسي والاستخباراتي. فالعالم المعاصر لا يقتصر على البيانات الرسمية، بل يتسع لما يسمى بـ”المصادر المفتوحة”، حيث يراقب المحللون حركة الطائرات عبر الإنترنت، أو الأنشطة التجارية حول المواقع الحساسة، أو حتى التغيرات في سلوك الأفراد على وسائل التواصل. في هذا السياق، “مؤشر البيتزا” ليس سوى نسخة ساخرة ومبالغ فيها من أدوات واقعية تستخدم بالفعل.

قد يكون “مؤشر البيتزا” نكتة طريفة أكثر منه أداة استخباراتية، لكنه يكشف عن جانب مهم في علاقتنا بالأحداث: رغبتنا في تحويل أدق التفاصيل إلى إشارات كاشفة، حتى لو كانت في النهاية مجرد أوهام. إنه يذكّرنا بأن السياسة ليست مجرد معادلات جافة، بل هي أيضًا مسرح للحكايات والأساطير التي تمنحنا إحساسًا بأننا قادرون على فهم ما يجري حولنا. وبينما يستمر العالم في الانشغال بتقارير الطائرات المسيّرة والقنابل الذكية، ستظل هناك دومًا زاوية صغيرة تذكرنا بأن وراء القرارات المصيرية بشرًا يتناولون وجبة سريعة في ساعة متأخرة.

وفي النهاية، قد لا نعرف إن كانت البيتزا مؤشراً على اندلاع الحروب أو مجرد تسلية ليلية، لكن المؤكد أن عجينة البيتزا أكثر ليونة من عجينة السياسة الدولية، وأن الأولى تُفرد باليدين على الطاولة، بينما الثانية تُفرد أحيانًا على حساب الشعوب بأكملها.
(أخبار سوريا الوطن-2)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ماذا يعني أن يخطب نتنياهو في قاعة الأمم المتحدة شبه الفارغة؟

    حسن حردان     ماذا يعني أن يلقي رئيس وزراء كيان العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو خطاباً في الأمم المتحدة، في وقت كانت القاعة ...