| محمد عبد الكريم أحمد
حلّت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الذكرى المئة لكشف الآثاري الإنكليزي هوارد كارتر (1874-1939) ما عُدّ الاكتشاف الأعظم منذ مئة عام: مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون في وادي الملوك غربي طيبة (الأقصر) في صعيد مصر بعد أكثر من أربعة عقود على كشف خبيئة ملوك الدولة الحديثة في الموقع نفسه. كانت عملية الكشف نفسها محصّلة لعقود من نشاط كارتر في مصر، ثم بتمويل سخيّ في مرحلتها الحاسمة من «البعثة المصرية» في متحف «المتروبوليتان» في نيويورك، الواقع على بعد مئات الأمتار من حي هارلم في المدينة الكوسموبوليتينة. في الفترة نفسها، شهد الحيّ نهضة ثقافية زنجية ملهمة لمجمل العرق الزنجي في الولايات المتحدة وخارجها، لا سيما في الكاريبي وغرب أفريقيا؛ وكان من تجليات هذه النهضة الجدل الذي ارتبط بالفرعون الصغير «وزنوجته» في سياق أكبر من التأصيل للحضارة الزنجية والأفريقية في مصر وحضارتها الوادعة لآلاف السنين على ضفاف نهر النيل فيما عكس كل ذلك، رحلة مثيرة للأقدار، صيرورتها وما آلت إليه، وبيّن تناقضاتها المدهشة التي سُبرَت أغوار مواقع جغرافية متنوعة بقدرية تليق ببطء السنوات الطويلة التي رقد خلالها الفرعون الصغير وسرّه حتى لحظة فتح بوابة قبره أمام نور السماء الدنيا مرة أخرى.
هوارد كارتر والطريق إلى أعظم الكنوز الفرعونية
روى بيرسي إدوارد نيوبيري (توفي عام 1949) رحلة تلميذه وزميله كارتر لكشف مقبرة توت عنخ آمون في مقال أصيل ومكثف بعد أسابيع على وفاته (1)، وأرجع اتصاله بالدراسات المصرية إلى صيف 1891 مساعداً له في تحبير رسوم القلم الرصاص التي خطها نيوبيري لمقابر بني حسن (في المنيا). ثم وافقت «لجنة صندوق استكشاف مصر» (في الولايات المتحدة) على مرافقته أستاذه في رحلته إلى مصر في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه للعمل في منطقة بني حسن والبِرشة (جنوب مدينة المنيا).
في هذا الوقت، كان فلندرز بتري F. Petrie قد بدأ للتو عمله في (تل) العمارنة باستثناء المقابر الصخرية، واستعان بكارتر عام 1892 ليقوم الأخير بأولى تجاربه في الكشف الأثري في مصر، وسرعان ما تم تعيينه رساماً في المسح الآثاري التابع للصندوق في منطقة بني حسن. تدرّج كارتر في مهام ومناصب متنوعة في «مصلحة الآثار المصرية» واقتربت خطاه أكثر من «إنجاز عمره» في خريف 1893، عندما بدأ «صندوق استكشاف مصر» في نسخ مشاهد ونقوش معبد الدير البحري وتعيين كارتر رساماً في طاقم آثاري بقيادة البروفيسور إدوارد نافيل (في القسم المصري في المتروبوليتان). خلال الأعوام الستة التالية، واصل عملاً حثيثاً في نقل رسوم المعبد الشهير، ونشرت رسومات كارتر بالقلم الرصاص في كتاب بتقنية الطباعة التصويرية (كولوتيب) في ستة مجلدات حول الدير البحري نشرتها الجمعية. وفي نهاية عام 1899، عندما بدأ البروفيسور غاستون ماسبيرو فترة رئاسته الثانية لمصلحة الآثار. قررت الحكومة إعادة هيكلة المصلحة وعيّن كارتر كبيراً لمفتشي آثار الصعيد والنوبة؛ ولم يضع كارتر دقيقة في بدء عمله الجاد، فقضى أعواماً ثلاثة في ترميم معابد غربي طيبة وإدفو وكوم امبو وآثار أبي سمبل. وفي كانون الثاني (يناير) 1902، بناء على اقتراح كارتر، بدأ الأميركي ثيودور م. ديفيز في تمويل جهد الاستكشاف المنتظم لوادي (مقابر) الملوك في طيبة، وأشرف كارتر شخصياً على هذه الجهود التي أثمرت كشوفاً هامة مثل مقبرتي تحتمس الرابع وحتشبسوت. وانتقل كارتر في عام 1903 لإدارة تفتيش آثار مصر السفلى والوسطى، واستقر في منطقة سقارة، قبل أن يستقيل من منصبه على خلفية نزاع مع زوار فرنسيين للسيرابيوم.
حضر متحف «المتروبوليتان» بقوة في جهود الكشوف الأثرية في «وادي الملوك». تناول ت. جيمس تفاصيل موثقة لهذا الحضور، خصوصاً ما يتعلّق بجهود كارتر في مجلّد رصين حمل عنوان Howard Carter: the Path to Tutankhamun (1992)، وأشار فيه إلى حالة تنافس أوروبي على الآثار المكتشفة في الأقصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومساعي أحد أهم تجّار العاديات الألمان، وهو ج. هـ. انشينجر J. H. Insinger، الاستحواذ على ما تخرجه مقابر «وادي الملوك» أولاً بأول، وقلقه البالغ من أنشطة كارتر ورفاقه، ما اضطره إلى المكوث في الأقصر أغلب أوقات العام ترقباً لأية اكتشافات، ودعمه جهود الآثاريين الأوروبيين العاملين في مصر لتغيير الصيغة التي كانت تتبناها مصلحة الآثار المصرية بقسمة 50% من الآثار مع مكتشفيها (والجهات التي تمولهم ومن أبرزها «المتروبوليتان») وإلغاء اشتراطها ألا تكون القطع بالغة الأهمية أو فريدة غير متكررة (2). أمر أسهمَ ــــ إضافة إلى إلغاء الحماية البريطانية على مصر قبل أشهر من كشف مقبرة توت عنخ آمون وتعديل تلك القوانين بشكل جذري ـــــ في احتفاظ المتحف المصري في القاهرة بالمجموعة كاملةً داخل جدران المتحف.
تفاعلات الوحدة الأفريقية في أوروبا
شهدت أوروبا تفاعلات هامة لحركة «الوحدة الأفريقية» وأنشطة مجموعات الأفارقة الأميركيين في الولايات المتحدة؛ وارتبطت بهذه التفاعلات أنشطة المصري- السوداني الأصل دوس محمد علي في لندن التي تقاطعت بدورها عن كثب مع الأنشطة السابقة وزخمها الكبير كما في مثال «الجمعية الزنجية للبحوث التاريخية» التي أسسها جون إ. بروس في الولايات المتحدة (1912)، ونمو أنشطة «الأكاديمية الزنجية الأميركية» التي أسسها الأفريقاني البارز ألكسندر كروميل (1897). واهتم دوسي محمد بدراسة «التاريخ الزنجي» (ستتطور لاحقاً في سياقات ما عرفت بنهضة هارلم في مدينة نيويورك الأميركية خطوات للأمام نحو تبني أفكار الشخصية والمركزية الأفريقيتين) وكتب مؤلفاً هاماً عن تاريخ مصر بعنوان «في أرض الفراعنة» (1911)، أدان فيه الاستعمار البريطاني في مصر. كما تأثر دوسي بقوة بـ «مؤتمر الأعراق العالمية» الذي انعقد في العام نفسه في لندن، وحضره رائد الفكر الأفريقاني في القرن التاسع عشر إدوارد بلايدن بممثل خاص (3).
وبينما نجح ماركوس غارفي مؤسس «الجمعية العالمية لتحسين الزنوج» UNIA في إرسال ممثل «للعرق الزنجي» إلى «مؤتمر باريس للسلام» (بين القوى الأربع الكبرى في نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى: الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا في يناير 1919)، مُنع الزعيم المصري سعد زغلول، من المشاركة في أعمال المؤتمر. وسرعان ما أرسل -بصفته رئيساً لوفد مصر- خطاباً في 28 كانون الثاني (يناير) لرئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو يحتجّ فيه على الحيلولة دون تقديم مذكرة الوفد (تضمّنت أسباب مطالبة مصر بحقوقها الكاملة في وجود حرّ واستقلال تام) خلال إحدى الجلسات، وطلب من كليمنصو الإشارة إلى القضية المصرية رسمياً في مؤتمر السلام (5). بعدها مباشرةً، تلقّى الوفد دعوة من لندن لزيارتها والتناقش مع اللورد ألفريد ملنر وزملائه. ومع قبول سعد زغلول الدعوة، دخلت العلاقات الإنكليزية المصرية مرحلةً جديدةً، بحسب المؤرخ البريطاني المعاصر هاري كارمان H. Carman، واتخذت أولى الخطوات في «اتجاه تسوية حكيمة للمشكلة المصرية» واحتواء التوتر الناجم عن إدراج «معاهدة فرساي» الحماية البريطانية على مصر، مع ملاحظة ملنر أنه رغم وجود عنصر معادٍ للبريطانيين في مصر (بعد الثورة المصرية في مارس 1919) إلا أن المكون الغالب هو تيار تأييد القومية المصرية لا مناهضة بريطانيا؛ ومن ثم فإنه ينبغي لبريطانيا الاستجابة لمطلب المصريين بالاستقلال (6). وحضرت تجربة «الوفد» المصري في مواجهة شراسة الديبلوماسية البريطانية لاحقاً في رفض سعد زغلول وحكومته الوفدية خروج أي قطع أثرية من مقبرة توت عنخ آمون من الحدود المصرية.
شهدت منطقة هارلم، التي يفصلها عن متحف «المتروبوليتان» أجزاء من حافة متنزه «سنترال بارك»، نمواً ملحوظاً في توافد السكان الزنوج عليها منذ عام 1910 من جنوب الولايات المتحدة وجزر الهند الغربية إلى المنطقة ومنهم ناطقون باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ووصل عددهم عام 1933 إلى ما لا يقل عن 350 ألف زنجي. ورجعت هذه الزيادة بالأساس إلى تداعيات الحرب العالمية الأولى، مع وجود أعداد كبيرة من الشباب الذين أسهموا في الخدمة مع القوات المسلحة الأميركية خلال الحرب، ونمو الطلب على الأيدي العاملة السوداء (7)؛ وترافق هذا النمو السكاني المطّرد مع حركة تجديد ثقافي وفني كبيرة حضرت الحضارة المصرية وتأثيراتها في أوجه عدة منها.
وفيما يخص الجدل الهوياتي، نشرت مجلة The Negro World في آذار (مارس) 1923 مقالاً للناشطة الأفريقانية آمي جاك غارفي (سكرتيرة ثم زوجة رجل الأعمال الأفريقاني بالغ الثراء ماركوس غارفي والشخصية الأبرز في مسارات مرحلة نهضة هارلم بكافة تجلياتها الأيديولوجية والسياسية والمجتمعية) حاولت فيه توظيف حدث اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون لصالح تعزيز تطلعات الشعب الزنجي في العالم؛ لا سيما أنّ «آمي» كانت في مقدمة مجموعة من السياسيين والصحافيين ممن وظفوا كتاباتهم لتكوين وعي أسود جماعي (8). كما سردت أولا تايلور تفاصيل عن ذلك في مؤلفها The Life & Times of Amy Jacques Garvey (2002).
أصدرت بريطانيا قبل تسعة أشهر من فتح كارتر لمقبرة الملك الصغير، إعلاناً أحادياً باستقلال مصر
وارتبطت أفكار آمي بأهداف UNIA بل وتبنّت الأيديولوجية الغارفية. لذا فإنها أثارت بحماس معهود عن الغارفية (وربما نزعتها الدينية التوفيقية) مسألة قناع الفرعون الصغير على أنه قطعة آثار فنية أفريقية، مع تتبع المجلة المذكورة، بحسب دراسة فانيسا ديفز (2022) القائمة على تحليل مضمونها (9)، بانتظام أخبار القطع التي يتم الكشف عنها تدريجاً من قطع المقبرة الثرية وأفرادها مساحات واسعة لمقالات وتقارير متنوعة عنها. خاضت آمي نقاشاً وجدلاً معمقاً مع عدد من كبار الآثاريين المعنيين بحضارة وادي النيل ومن بينهم بتري. ورأت في مقال آخر عام 1926 أن قناع الفرعون (أميط عنه اللثام قبل أشهر من مقال آمي) يكشف بوضوح سماته العرقية، وأن المتعصبين للتفوق الأبيض لا يمكنهم ادعاء انتمائه لهم، لذا فإنهم لم يعلقوا على أصله العرقي.
وفي ما يخص فن النحت -مثالاً- برز عدد من كبار النحاتين الأفرو أميركيين أمثال هنري مور (1898-1986) الذي أسره النحت المصري القديم وزار على نحو منتظم المتحف البريطاني في لندن في عشرينيات القرن الماضي وأبدى إعجابه بـ «نزعة خلود» النحت المصري وآثار الدولة القديمة. وتأثر بتمثال ننخفتكا Nenkheftka (2450 ق.م) المصنوع من الحجر الجير الذي اكتشفه بتري عام 1897 في «دشاشة» ورأس بقرة مصنوع من الحجر الكلسي (1450 ق.م.) عُثر عليه في الدير البحري (1905). كما أصاب الولع بالفن المصري صديقه جاكوب إبشتين الذي عرف بزياراته المنتظمة لمعرض «العمارنة» في Wellcome Historical Medical Museum. أما الفنان الجامايكي الأصل رونالد مودي (1900-1984)، أحد أهم فناني «نهضة هارلم»، فقد أدهشته التماثيل المصرية في المتحف البريطاني، وبدا التأثير الأكبر له في قطعته الفنية الأبرز Johanaan التي شملها معرض «الفن الزنجي» وعدّت من أهم الرموز المعبّرة عن الهويات الثقافية للسود (10).
صعود النزعة «الفرعونية» داخل التيار الوطني التحرري بقيادة سعد زغلول
خاتمة
أصدرت بريطانيا قبل تسعة أشهر من فتح كارتر لمقبرة الملك الصغير، إعلاناً أحادياً باستقلال مصر (ورفع الحماية عنها). وقد تزامن كشف المقبرة مع تلك التطورات، كما تسرد أليس ستيفنسون في مؤلفها Scattered Finds (2019) (11)، أمراً ذي دلالة عميقة مع صعود النزعة «الفرعونية» داخل التيار الوطني التحرري في مصر بقيادة سعد زغلول (ت. 1927). تجلّى ذلك في بدء مدير مصلحة الآثار المصرية بيار لاكو (ظلّ في منصبه حتى عام 1936)، بإحكام سيطرة الحكومة على عمليات التنقيب عن الآثار ومراعاة الحساسيات الوطنية المتنامية وسط مطالب بفرض إدارة مصرية داخل المصلحة. وشملت تعديلات لاكو البند المتعلق باقتسام الموجودات (نسبة 50% للمتحف المصري والمنقب) وإمكان مطالبة المصلحة بكل ما يتم العثور عليه؛ وعارض سعد زغلول وحكومته بقوة أي مساع لاحقة لخروج قطع من المقبرة، فيما خابت آمال كارنارفون، بحسب خطاب أرسله لصديقه آلان جاردينر، بملء قسم الآثار المصرية في المتحف البريطاني بقطعها، وأقر بتري بالهزيمة سريعاً في هذه المسألة، وغادر مصر إلى فلسطين لاستكمال العمل في ظل سلطات الانتداب البريطاني.