محمد جرادات
وضع مادورو، بالسؤال الذي طرحه، العالم المسيحي الأوروبي في أتون الشعور الإنساني الفطري، وهو يتابع بغضب شديد عمليات إحراق نسخ من المصحف في السويد والدنمارك بحماية من الشرطة الرسمية.
طرح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو سؤال العقل الموضوعي النقديّ على كل مسيحيّي العالم، بصفته مسيحياً متبعاً لتعاليم السيد المسيح (عليه السلام)، قائلاً: بماذا سنشعر إذا ما قام أحدهم في أيّ بلد في العالم بإحراق نسخة من الإنجيل؟ بمَ سنشعر عندها كمسيحيّين؟!
وضع مادورو العالم المسيحي الأوروبي بهذا السؤال في أتون الشعور الإنساني الفطري وهو يتابع بغضب شديد عمليات إحراق نسخ من المصحف القرآني في السويد والدنمارك بحماية من الشرطة الرسمية، وقد أحسّ بعمق قلبه مدى استياء الشعوب المسلمة وشعورها بالإهانة.
مبعث الاستياء الإسلامي الذي لمسه مادورو بكل موضوعية ليس جريمة الإحراق وحماية الشرطة، ولا اختباء الرأي العام الأوروبي خلف أكذوبة حرية التعبير، إنما هذا الصمت المريب لزعماء أوروبا. وقد اعتبره مادورو غضاً مقصوداً للطرف، بما يرقى إلى مستوى التشجيع على بث جرائم كراهية بحق الشعوب المسلمة.
شَجْبُ مادورو المطلق لهذه الجرائم العنصرية ضد الإسلام والمسلمين سبق أن دفع سماحة السيد حسن نصر الله منذ أيام قليلة، وفي غمرة إحياء ذكرى ليالي الحسين في محرم، إلى أن يستنهض همم الشباب المسلم في أوروبا لأخذ المبادرة في مواجهة هذا التدنيس الذي تقف خلفه جهات مرتبطة بالموساد الإسرائيلي، في ظل صمت الحكومات وعجزها.
كان طبيعيّاً أن يغضب السيد نصر الله، كما كل المرجعيات الإسلامية من الأزهر حتى النجف وقم والقيروان، ولكن الغضب الذي تملّك مادورو، وقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي احتضن نسخة من المصحف في داغستان، عكس رؤية مشرقة في وأد الفتنة في مهدها.
وقد أعلن بوتين في وقت مبكر أن أيّ إساءة إلى هذا القرآن في روسيا توجب العقاب لمن يرتكبها، بخلاف ما يجري في الغرب، في إشارة عميقة إلى الفارق الحضاري بين الغرب المتلبد بالعنصرية وصراع الحضارات والشرق الآخذ بالنهوض وفق قيم العدالة الإنسانية.
ربط مادورو بين التضامن مع فلسطين ومظلوميتها في مواجهة الوحشية والذبح وهذه الجريمة المتكررة بحق كتاب المسلمين المقدس، وكأنه أراد أن يلفت نظر المتابعين إلى ما قاله السيد نصر الله صراحة بأن من يحرق نسخاً من القرآن في قلب أوروبا هو ذاته الذي يذبح الفلسطيني في جنين والقدس وغزة، فهي قصة واحدة برواية واحدة، وخصوصاً بعد توفر معطيات تدين الشخص المجرم الذي تولّى كِبْر جريمة الإحراق بالعمالة مع “إسرائيل”.
القرآن الذي ارتبط أوله بآخره من خلال سورة الإسراء التي بارك فيها الله أرض فلسطين وما حولها، وجعلها مربض الصراع بين العلو الإسرائيلي وإفساده وعباد الله أولي البأس الشديد، هو المستهدف الأول من الذين ختم عليهم رب العزة في القرآن بقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.
هذا الاستهداف الإسرائيلي للقرآن في قلب أوروبا المسيحية عبر شخص عراقي هو وسيلة إسرائيلية خبيثة لضرب كامل التناقضات بينها، فيما يبقى الإسرائيلي ليحصد ثمرة هذا التناقض، في سلوك قديم جديد انطلى على معظم أطراف الصراعات في العالم، ولكن المستجد اليوم أن تتصدى لهذا الخبث الإسرائيلي جهات واعية مدركة لهذه الألاعيب ومراميها، وأن يكون بينهم زعماء من العالم المسيحي يغردون خارج سرب الغرب المنقاد إلى الخبث الإسرائيلي، وعلى رأسهم زعيم فنزويلا مادورو.
وجاءت لعبة الموافقة السويدية على إحراق نسخة من التوراة لتتكشف عبرها حقيقة الاستهداف الغربي الإسرائيلي للقرآن الكريم بعد لملمة نيات شخص ما لإحراق التوراة، بعدما ارتعش قلب الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ من نيات كهذه، فاهتزت في إثره كل الأطراف الرسمية والمحلية والخارجية للحيلولة دون ذلك، وهو ما لم يحصل إزاء التكرار المتعمد ضد القرآن.
جرائم الكراهية ضد المسلمين تتمظهر في نسختها الجديدة. وقد سلّط مادورو عليها الضوء لينسف بما يملكه من إحساس فطريّ صادق كل الترّهات الغربية، وأهمها أكذوبة حرية التعبير، التي سبق أن تصدى بوتين لها في معرض نقده لمزاعم فرنسا في صون حرية التعبير في جرائم توجيه إهانات إلى رسول الله محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وخصوصاً أن حرية التعبير العلمانية الليبرالية الغربية تتحجر أمام أدنى إشارة إلى العنصرية الإسرائيلية ومتعلقاتها الدينية والسياسية، فالمحاكم والقوانين والدساتير الغربية تشهر أنيابها بكل صلف في وجه أدنى اجتهاد عقلي ضد الزيف اليهودي التاريخي والمعاصر.
هذا التضامن الفنزويلي الصريح مع القرآن يؤسس لنموذج التعايش الإنساني الذي قدمه بين أهل الاختلاف بالرأي، ويقدم رؤية حرية التعبير في نسختها الحقيقية، وهو يدعو البشرية بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}ِ.
إنه التعاون الإنساني الذي سبق أن لحظه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في القرآن، في واحدة من اللحظات النادرة لاستيقاظ الضمير العالمي، بقوله: “رأيت تجلياً معاصراً لما جاء به القرآن الكريم في سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}، فهذه الحماية يجب أن تُكفل للمؤمنين وغير المؤمنين على السواء، كما ذكر في القرآن الكريم، وهذا تعبير مبهر عن مبدأ حماية اللاجئين قبل قرون من إبرام اتفاقية 1951 للاجئين”.
هذه المبادئ المبهرة في القرآن، التي لحظها مسيحيون كمادورو وبوتين وغوتيريش، ربما هي التي تلحّ على العنصرية الغربية، ومن خلفها المؤسسات الأمنية الإسرائيلية والأميركية، لمحاولة النيل من القرآن وما يمثله من قيم إنسانية ومبادئ تشريعية تفضح الهرطقات التلمودية والخزعبلات الغربية، وقد أخذت تتساقط أمام عالمية القرآن المنزل بمنهجية علمية كفاحية تلائم تحولات العصر وتحدياته.
سيرياهوم نيوز1-الميادين