إسماعيل مروة
ها هي عاشقة من عاشقات الوطن العربي وسورية والشام تحزم حقائبها وترحل وقد نيفّت في حبها وعشقها للشام على التسعين، أخلصت في حبها وكان كتابها «يا مال الشام» من أوائل المصادر لتوثيق الشام على وجه الحقيقة، وليس بشكل تجاري عاطفي.
أعطت وكانت بين الجنود في ساحات المعارك، كانت في كل مكان، على بركة دار عربية، أمام الغاردينا والياسمين، وفي عينيها بندقية من حب، وفي عينيها دمعتان تحجرتا خمسين عاماً على شهيدها البطل الذي منحته ومنحت ذكراه خلاصة تراب الوطن.
من الفلسفة إلى الجندية
تذكر سهام ترجمان تفاصيل رحلتها ودخولها إلى عالم الصحافة والإعلام، والدخول إلى عالم الإعلام العسكري فتقول: «إثر تخرجي في جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم الفلسفة، تقدمت لمسابقة وزارة الدفاع، وعينت حسب ميولي الأدبية ورغبتي في الفرع الثقافي العسكري، محررة مبتدئة في مجلة الجندي.. وفكرت طويلاً، والرهبة تلفني ماذا أكتب للعسكر؟ وأنا لا أتقن إلا فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، والجملة الفلسفية التاريخية اعرف نفسك..!
وتفتقت عبقريتي آنذاك وفطرتي لشدّ انتباه القراء إلى القلم الناعم الجديد عن مقال مهم بعنوان: «هل نحن على أبواب حرب جديدة، نشر في مجلة الجندي في العدد 257، السنة العاشرة 24 آذار 1956 وقد تم تعييني موظفة في وزارة الدفاع في نيسان 1956، بعد شهر واحد من الدوام على الوظيفة الحلم».
ثلاثة وعشرون عاماً كان عمر سهام ترجمان عندما أرادت الكتابة للجندي والوظيفة في وزارة الدفاع، فهي من مواليد 1933، وتخرجت لتدخل المسابقة التي رأتها حلماً، وانتظمت فيها وأعطتها كل اهتمامها وبذلك كانت عسكرية إعلامية وظيفة وحلماً، ولم تأت إلى الجانب العسكري مصادفة، فكانت تعرف هدفها وتسعى إليه، فكانت من أوائل، إن لم تكن أول امرأة تتبارى لتحصل على عمل مع الجنود في الميدان العسكري، وكذلك بدأت الحكاية.
كينونة الكاتبة
تقول الكاتبة الأديبة سهام ترجمان في كتابها الأكثر شهرة «جبل الشيخ في بيتي»: «قال المسيح عليه السلام اجتهدوا للدخول من الباب الضيق.. عربية سورية مسلمة أنا، مؤمنة بالنبي العربي المسيحي عيسى بن مريم، الفادي العربي الأول، صوفية العشق أنا، أعشق الذات الإلهية، أعشق الأنبياء موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، أعشق الوطن، وأعشق أمي الروحية، دمشق- الشام، قلب الحرية، الخط الأول لحرية العرب.
أنحني وأدخل إلى المستقبل العربي من الباب الضيق».
الوطنية المنتمية
سهام ترجمان الأديبة والشاهدة والوطنية الملتاعة في وطنها ونفسها غادرت هذه الأرض تاركة الكثير الكثير من الكتابات، والدروس التي يحسن بنا أن نتعلمها من أجل سورية، وما قالته في الدخول إلى المستقبل العربي من الباب الضيق يكفي ليكون راسماً للأيام المقبلة وللشباب، كانت إعلامية وكاتبة.
من خطوط النار في الجبهتين السورية والمصرية نقلت الكثير وعاشت أياماً فيها من القلق وحب الانتماء الكثير، عرفت سهام ترجمان بكتابها: «يا مال الشام» وكان توثيقاً يعرف الحياة ليومياتنا دون تزييف، وبكتابها «جبل الشيخ في بيتي» الذي اكتسب أهمية من رصده ليوميات حرب تشرين التحريرية بقالب أدبي مرهف، وبمشاعر لا تعرف غير الانتماء.
الانحياز للوطن
سهام ترجمان من أولى النساء اللواتي عرفن خطوط النار، وعشن مع الجنود فرحة النصر، ولأنها تملك تلك اللغة وذلك الإحساس استطاعت أن ترسم بقلمها أبهى اللحظات، وفي الوقت نفسه توحدت الكاتبة الراحلة مع البطولة والشهادة والألم والفقد توحداً نادراً، ففي كانون الثاني عام 1973 يستشهد زوجها النقيب فؤاد محفوظ في المناطق الأمامية، وتبقى أرملة الشهيد حتى رحيلها، وهي التي قالت عن لحظة الاستشهاد والفقد: «إن اللون الأسود يغطي جسمي ووجودي وتفكيري ويلتصق ببشرتي البيضاء ويطلي كياني وجوهري بطلاء لاصق أسود».
استشهد الزوج الضابط ابن دير ماما، ليسكن هناك كما تقول في الشمال، وتعجز عن رثائه وقد طلت جوهرها بالسواد، وتستمع لما كان يقوله فيه صديقه وابن بلدته ممدوح عدوان ومرة أخرى عندما تكتب عن زوجها وشهيدها تقول: «أدرك بعقلي الحزين، أن أحزاني الشخصية وأحزان مثلاتي سوف تتفتح ابتسامات وضحكات رنانة في مستقبلنا العربي المقبل في كل بيوت الوطن».
الحزن المشترك
إنها الإنسان المرهفة التي تدرك أن الفقد حزن، وتشعر بحزن مثيلاتها اللاتي فقدن الزوج، أو الأب أو الابن في الحرب مع الكيان الغاصب، لكنها كانت تنظر أبداً إلى الغد القادم، ترقب المستقبل بعيون الأطفال والنساء، وكل أبناء الوطن، ومن عرف سهام ترجمان عرف أنها بقيت على إيمانها ذاك بالمستقبل حتى في أحلك الظروف التي عاشها الوطن والإنسان السوري فكانت شاهدة مرحلة وابنة للوطن بكل تفاصيلها وعناصر إيمانها.
الرموز الثابتة
في كتاباتها العديدة وفي كتابها «جبل الشيخ» تتغنى كثيراً، ويحق لها بثلاثة أناشيد شكلت أهم عناصر الموسيقا هي: بلاد العرب أوطاني- حماة الديار- سورية يا حبيبتي، وتثبت نصوص هذه الأناشيد لما تمثله من مرتكزات في فكرها، فهي عربية تحب هذا الوطن الكبير، وهي التي تركت عمرها لحماة الديار، ووهبت نفسها لواحد منهم، ثم أعطته للشهادة وهي السورية التي تتغنى بسوريتها والنشيد الجميل.
كتبت عن هذه الأناشيد التي تحفز ذاكرتها، وفي كتابها في الصفحات الأخيرة تجمع الأناشيد معاً، ولكل نشيد تضع المسوغات، «كم ستكون كبيرة وغنية فرحتي لو سمعت يوماً أن ابنة أخي وابنه يتقنان عزف موسيقا النشيد العربي السوري على البيانو رغم غربتهما.. ولو سمعت أن ابني أخي يتقنان عزف نشيد سورية يا حبيبتي على الغيتار.. وكم سأنفجر بالفرح لو سمعت يوماً أن أبناء أصدقائي المغتربين السوريين والعرب ينشدون ويعزفون ألحان موسيقى بلاد العرب أوطاني.
لن أغترب عن الوطن
سوف أظل أبداً في وطني
سوف أموت في وطني..».
رحيل وأجراس
رحلت الكاتبة المميزة سهام ترجمان بعد رحلة من عشق الوطن والإنسان، وسجلت شهادتها على زمن عاشته، وقدمت القرابين للوطن من ذاتها، وممن حولها، وبقيت كما قالت في وطنها لم تغادره وها هي كما قالت قبل أربعين عاماً تبّر بوعدها لتموت في الشام، وتودعها الشام كما يليق بوداع المحبين والمحبوبين، وهي الصوفية عشقاً للشام كما كتبت عن نفسها، وهي المؤمنة بكل ما يدور حولها من عقائد وشرائع، وهي التي أخلصت لعروبتها وسوريتها وشامها حتى اللحظة الأخيرة.
اليقظة! اليقظة..
حتى لا يتحول المارد إلى شمشون معاصر مهزوم بفعل الحيلة والدهاء.
النوم هو العملاق الوحيد الذي يتمكن من إعادة المارد إلى القمقم.
فلتقرع أجراس الحذر حتى لا ينام البطل أبداً)
وها هي أجراس وداع سهام ترجمان تقرع معلنة سفرها الطويل.. وداعاً لجيل نبيل أنت منه أيتها الأديبة الكبيرة.
وداعاً على كلمات يا مال الشام.
وداعاً مع ثلوج جبل الشيخ في بيتك الدمشقي رحلت وهي تردد:
«عيني على أمي الحبيبة وعيني على خط الحدود، على خط الحياة أو الموت خط الوجود واللاوجود».
قالوا في وداعها
إن اتحاد الكتاب العرب إذ ينعى إلى الكتاب والمبدعين الأديبة الكبيرة سهام ترجمان عضو اتحاد الكتاب العرب، والمثقفة السورية الأصيلة والرائدة، فإنه يؤكد ضرورة السير على نهج الأدب الملتزم الأصيل والهادف إلى بناء المثقف الملتزم بقضايا أمته المبدئية.
الرحمة لروح أديبتنا المبدعة الراحلة سهام ترجمان، ولأهلها وذويها ومحبّيها وقرائها وذويها جميل الصبر.
اتحاد الكتاب العرب في سورية
الجيل الجديد قد لا يعرفها، وربّما لم يسمع بكتابها الشهير «يا مال الشام». إنّها الدكتورة سهام ترجمان، جميلة دمشق وأميرتها التي رحلت عن عالمنا أمس عن عمر ناهز 91 عاماً. قرأت لها بشغف منذ المرحلة الجامعيّة، قبل سنوات طويلة من لقائنا، وتعلّمت منها الكثير الكثير عن الأضاليا، والقرنفل، والفلّ البلديّ، وعن «الشبّ الظريف» وغيرها من أزهار دمشق. وكان محور آخر لقاء بيننا استقبالات «النسوان» أيّام زمان، في يوم محدّد من كلّ شهر، وهو ما عرفته وعاصرته مع جدّتي.
رحم الله الصديقة الأصيلة، بنت الشام سهام ترجمان التي أحبّت دمشق كثيراً، وأعطتها الكثير من قلبها وروحها، ولم تأخذ بالمقابل إلّا شرف الانتماء إليها.
سامي مروان المبيض
انتقلت إلى رحمة الله صباح اليوم في دمشق الأديبة سهام ترجمان. تغمدها الله بواسع رحمته وأحسن إليها بالمغفرة والرضوان.
ولكم ولأسركم أحبتي الصحة وطول العمر.
جمانة طه
رحم الله أديبتنا الكبيرة الأستاذة سهام ترجمان،التي أثرت حياتنا الثقافية والإعلامية على مدى عدة عقود من الزمن وكانت وفية لعملها،صادقة في أفكارها ومشاعرها.
الكاتب حسن م يوسف
سيرياهوم نيوز3 – الوطن