الرئيسية » كتاب وآراء » ماذا فعلت يا آردوغان؟

ماذا فعلت يا آردوغان؟

دكتور محيي الدين عميمور

أحسست ببعض التقزز من موقف الرئيس التركي رجب الطيب آردوغان بعد إيقافه لنشاطات بعض إعلاميي المعارضة المصرية، خصوصا وقد كنت ممن تحمسوا للعديد من مواقفه التي رأيتها تعبر في وقت واحد عن الإيمان بالمبادئ والوفاء للحلفاء وعدم التفريط في المصالح الوطنية.

ولقد تابعت معظم التعليقات على موقفه الأخير، والتي تراوحت بين أقصى يمين “الانتهازية” وأقصى يسار “البراغماتية”، بدون أن أتوقف عند من انتهز الفرصة لتصفية الحسابات بأسلوب رخيص ألفناه من الأعراب، أو أمام تشفي وشماتة البعض في خصوم لم يكن له أي فضل في تحييدهم أو الانتصار عليهم.

وإذا كنت أتحرج دائما من شيطنة هذا وتقديس ذاك، فأنا أحاول أحيانا، كمجرد مثقف، تقمص دور ما يسميه أهل الشمال: محامي الشيطان (L’avocat du diable ) أي الدفاع عمّا لا يجب أن يدافَعُ عنه والتنديد بما قد لا يستحق الهجوم عليه، فلعل هذا هو ما يضمن الوصول إلى تحديد الموقف المحايد تجاه ما نعيشه ونحياه ونعاني منه ونتعرض لتداعياته.

ولقد تابعتُ، ، في حدود ما تسمح به التزامات متباينة، بعض مرافعات إعلاميي المعارضة، ولا أملك إلا أن أقول بأنها تبالغ في التشنج إلى درجة تفقد بها مصداقيةً هي في أمس الحاجة لها، حيث أنها هي الطرف الضعيف في المعادلة السياسية على أرض الواقع بكل تعقيداته.

وأنا أقول وأردد، فيما يتعلق بالصراعات السياسية، أن من الحماقة أن يُشيطن المعارض خصمه إلى درجة تنزع منه كل فضل وتستكثر عليه أي فضيلة، وكنت أقول إن تاكتيك المعارضة الناجحة يفرض أن يعترف المعارض ببعض الإيجابيات لخصومه ليستطيع “تمرير” اتهاماته لهم وإقناع من يتابعونه بنزاهته وموضوعيته، بل إن من الذكاء “الماكر” أن “يفتعل” بعض الإيجابيات التي يمكن أن تستثير شكوك متابعيه، فيتمكن من إثارة تنافرهم مع أعدائه وكسب أنصار جددٍ لما يناضل من أجله.

وسيقول البعض إن هذه ماكيافيلية “مذمومة”، وأردّ ببساطة أن العمل السياسي هو أحيانا، بل غالبا، صراع مرير في غابة موحشة لا مجال فيها للطوباويات والعُذريات والعواطف النبيلة، فمكان هذه هو في جمعيات أحباء القطط المنزلية وهواة الفراشات الجميلة.

وكمثال بسيط، عشته بعد نجاح مصر في تعويم الناقلة العملاقة التي أوقفت المرور في قناة السويس، حيث فوجئت بأن أحد المعارضين كان يُعلّق بسخرية بلهاء على ما حدث، ويستهين بالجهود التي بذلتها مصر تجاه ما كان يمكن أن يكون كارثة مزمنة، تُسيئ، سياسيا واقتصاديا، لبلد من أهم البلدان العربية.

وبغض النظر عن مواقفي المعروفة فقد كنت أرى أن عدم تقدير الجهود المصرية في مواجهة الحدث الذي ارتجف له عالم النقل البحري هو إساءة لكل المصريين الذين تجندوا بكل قوة وشجاعة ومثابرة ولعدة أيام متتالية وتحت ضغط رهيب من القلق والتوتر وفي مواجهة حدث تعرفه القناة للمرة الأولى في تاريخها الطويل، فعملوا بدون كلل أو ملل من أجل استعادة الحركة في أهم الممرات المائية في العالم، وفي مرحلة تتردد فيها معلومات وإشاعات عن محاولة العدو التاريخي وحلفاؤه الجدد منافسة قناة السويس بمشاريع موازية، هناك من يريد بها اختتام عصر القناة التاريخية.

وهكذا أحسست أن الاستهانة بالجهود المصرية كان موقفا ضدّ “مصر” ولا يمكن اعتباره مجرد موقف ضد “النظام في مصر”، وهو موقف لا يمس فقط بذكاء المعارضين بل يُسيئ إلى وطنيتهم.

وفي نفس الإطار الإعلامي، تابعتُ مع الكثيرين عملية تلويث الحقبة الناصرية، وإلى درجة أن هناك من كاد يُحسّ بأن المطلوب هو زرع اليقين بأن ثورة يوليو 1952 نقلت مصر من جنة رضوان إلى الدرك الأسفل من النار، وبأن جمال عبد الناصر هو أكبر مجرم عرفه التاريخ.

ولست هنا في معرض تقييم ما عرفته مصر والوطن العربي خلال عدة عقود، لكن تجاهل إيجابيات كثيرة عرفها عهد عبد الناصر، خصوصا في الخمسينيات، هو غباء سياسي وحماقة إعلامية، جسّدت كرها أعمى، قد تكون له بعض مبرراته الإنسانية، ولكنه يتناقض تماما مع أي محاولة للانتصار في معركة سياسية تتطلب حشد الحلفاء والأنصار وتحييد الخصوم ومواجهة الأعداء.

وأظنني كنت من أكثر الأقلام العربية عنفا في انتقاد بعض جوانب سياسة الزعيم المصري، لكنني لا أراني مبالغا إذا قلت إن الوطنيين في الساحة العربية يعترفون لجمال عبد الناصر بالكثير من الإيجابيات، ويقللون إلى حد ما من مسؤوليته عمّا يُنسب له ويُحسبُ عليه من سلبيات ليضعونها على عاتق من هم اليوم أشد الناس عداوة له، وممن يتحملون مسؤوليات أساسية في بعض ما عرفه الوطن العربي من نكسات، ومن بينهم من أصبحوا حلفاء، بل ومن عشاق، من كانوا دائما حربا عليه وعلينا.

وفضل عبد الناصر على النضال العربي والكفاح الإفريقي لا ينكره إلا جاحد، ومن هنا فإن من جعلوا همهم تلويث الرئيس المصري بشكل مطلق فقدوا الكثير من التعاطف العربي والإفريقي بل والدولي، ودفعوا كثيرين إلى الانسجام بل والتعاطف مع من يفترض أنه الهدف الأول لمواقفهم المعارِضة وهجماتهم الإعلامية، وهكذا أصبحوا هم الطرف الأكثر ضعفا في معادلة الصراع التي يعيشها الوطن العربي.

ومن الممكن أن يتقبل المرء كل أنواع النقد ضد ناصر إذا أكد الناقد موضوعيته باستعراض الظروف التي اجتازها وشراسة الأعداء الذين واجههم وتخاذل الحلفاء الذين صادقهم وهزال الأنصار الذين اعتمد عليهم وطبيعة الصراعات التي خاضها، ولو كان من النزاهة بحيث اعترف بدور من ينتمي لهم، فكريا أو سياسيا أو جغرافيا أو دينيا، في دفع الرئيس المصري نحو الانزلاقات التي يُرادُ أن  تُحسب عليه وحده.

وفي نفس السياق كنت حذرت أكثر من مرة من التحامل المطلق على كل القوات المسلحة العربية، وبغض النظر عن مبالغة بعض بلداننا في الاستعانة بالمؤسسة العسكرية بمناسبة وبغير مناسبة، أو إغراق بعض قياداتها، الممارسة أو المتقاعدة، بالمنح والهدايا والعطايا، فإن المسؤولية التي يجب أن تؤخذ في الحسبان بالدرجة الأولى ليست مسؤولية الضباط والجنود بل مسؤولية أوضاع معينة منحت لأجهزة الأمن الفرصة والسلطة لتستعمل المؤسسة العسكرية كعصاً ترهب بها من يعارض نفوذها.

ومن هنا فإن التنديد المتواصل بكل مؤسسة عسكرية عربية، بدلا من تجريم عناصر مخابرات تركت مهمتها الحقيقية لتمارس السيطرة والقمع والابتزاز والرشوة القيادية، معناه إساءة مؤكدة لأبنائنا وأخوتنا ممن يتحملون مسؤولية الدفاع عن الوطن، والنتيجة هي أن نفقد حلفاء طبيعيين لكفاحنا ضد الثورات المضادة لمصلحة الخصوم الحقيقيين لنا ولهم.

ولقد كان من التصرفات التي كان من المفروض على مناضلي المعارضة العربية، أي معارضة عربية، تفاديها محاولة تزعم النضال الإعلامي ضد ما تعرفه الساحة العربية من انزلاقات لا شك في أنها أسوأ ما عرفه الوطن العربي، لكن ما أحسست به هو أن الأمر اختلط على بعض الإعلاميين أحيانا فلم يُفرقوا بين صيحات حق تريد حقا وصيحات حقٍّ مزعوم تريد باطلا مؤكدا.

ولقد كانت مهمة هؤلاء الإعلاميين، وهم في ضيافة دولة لها حساباتها ومصالحها، تفترض التركيز على القضية الأساسية التي تتعلق بقطرهم الشقيق، أما ما يعرفه هذا البلد العربي أو ذاك فهو ليس من شأنهم، وربما كانت “الماكيافيلية” هنا ضرورة نضالية، أي الاكتفاء بأن يترك الأمر لأهله، بدون تأييد للانحرافات أو مباركة لها.

ولقد كنت ناديت بوقفة نقد ذاتي يراجع فيها وبها كل منا مواقفه وآراءه بدون أي تعنت أو تصلب أو انحياز، لكن ما تابعته في الشهور الأخيرة جعلني أظن بأن هناك نوعا مبتكرا من المازوشيين، يتلذذون باجترار الهزائم بل ولا يرون في بعضها أو كلها مواقف رجولة رائعة لرجالنا، ويعشقون البكاء على الأطلال التي كانوا أحيانا من أسباب خرابها، ويفضلون وضعية المظلومية النائحة على المواجهة الذكية، ويرددون، بهوانٍ لا مبرر له إلا روح الخذلان: “يا بخت من مات مظلوما ولم يَبِتْ ظالما”، ولا يتعاملون مع متطلبات المعركة المصيرية بذكاء المناضل الواعي الذي لا يبحث عن الإشفاق بل يسعي لكسب الحلفاء ويتفادى دونكيشوتيات بلهاء تفقده الأنصار بل وتدفع هؤلاء إلى الخندق المواجه.

وسأظل أنادي بضرورة التفريق بين ما هو استراتيجي وما هو تاكتيكي وبين مواجهة “الأعداء” والتعامل مع “الخصوم”، بل وأذكر بالمثل الشعبي عن أسلوب التعامل مع الأخ وابن العمّ والغريب.

ولعلي، وأنا أعود إلى ما بدأت به هذه السطور، لا أنفي أن تكون بعض مواقف آردوغان سلاحا يقنع بهم الآخرين بأنه قادر على إزعاجهم عندما يريد، لكنني آمل ألا يكون موقفه الأخير تعبيرا عن يقينه بأن من دعمهم ورعاهم لم يكونوا في المستوى الذي يشجعه على محاربة الآخرين من أجلهم، وبأن تصرفه لم يكن أكثر من تطبيق للتعبير المشهور: يداك أوكتا وفوك نفخ.

سيرياهوم نيوز 6- رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أنا والقمة والاعتذار عن وعد بلفور ..!

    د.جورج جبور   اخبرت صوت العرب في مقابلة هاتفية قبل لحظات ان الاعتذار عن الكلمات المؤسسة ل” اسرائيل”. وهي وعد بلفور امر يسبق ...