مالك صقور
أعود إلى عام 1949 .لا لكي أذكر بالأنقلابات في سورية ، بل لأذكّر بأن هذا العام شهد صدور رواية من أهم الروايات العربية ، التي تتناول النفاق ، وفساد الأخلاق ، والسياسة . والنصب والاحتيال ، واختفاء المروءة ، في المجتمعات العربية . عمر هذه الرواية الرائدة 75 خمس وسبعون سنة ..خمس وسبعون سنة انصرمت ، والحال التي تناولها الروائي يوسف السباعي ؛ ازدادت سوءاً على سوء .وكما يقول المثل : ( كأنك ياأبا زيد ما غزيت ) .وهنا ، تتجلى جدوى الكتابة .!!. لمن يكتب الكتاب ؟ وحقاً ، هل من فائدة وجدوى ؟ أنا لا أحب ترديد وإعادة : ” إن التاريخ يعيد نفسه ” ..لكن ما نشهده هذه الأيام يصعب وصفه ، وذلك لانتصار الزيف والنفاق ، وموت الضمير العربي ( الرسمي – الحكومي ) ..لأنه كما كنت أقول منذ حين (الحكومات في واد والشعوب في واد آخر).. لكن في النهاية هذه الحكومة من هذا الشعب .
وفي هذا الحيز المتاح ، سأحاول أن أوجز باختصار مضمون هذا النص الخالد الذي يضع الملح على الجرح .. ولكن كما قال أبو الطيب المتنبي : ( من يهن يسهل الهوان عليه —- ما لجرح بميت إيلام ) فمن اعتاد الذل والهوان في حياته يفقد الإحساس ، والشعور ، ومن يفقد الإحساس والشعور ، يفقد الكرامة ، ويموت الضمير والوجدان . وهكذا حلت هذه اللعنة في بلاد العرب أوطاني .
الراوي في هذه الرواية هو البطل أو الشخصية الرئيسة ، لم يفصح عن اسمه ، والمؤلف لم يذكر له اسماً . هذا الراوي موظف في إحدى الدوائر الحكومية . ذات يوم لم يستطع أن يهنأ بقيلولة العصر ، بعد وجبة غداء دسمة جداً ، فأخذ يتمشى في شوارع القاهرة ، إلى أن وصل إلى أطرافها . هنا بمحض المصادفة وقعت عيناه على حانوت كُتبَ على مدخله يافطة كبيرة : ( تاجر الأخلاق ) .. فيدخل الحانوت يحرقه الفضول وحب الاستطلاع لمعرفة ماذا في الداخل ، وأي تاجر هذا !!
يسأل الراوي الذي هو الآن ( الزبون الجديد ) ، عن ( الشوالات ) الكبيرة والصغيرة والأكياس التي يكتظ بها الحانوت ، فيجيب التاجر : إنها مساحيق الأخلاق : كل الأخلاق ( مسحوق الشجاعة ، مسحوق المروءة ، و الإخلاص ، و الصدق ، و المحبة ، و العفة ، والتضحية ، والصبر ، وكل قيم الفضيلة والأخلاق ). ويطول الحوار بين الزبون الجديد والتاجر .. ويمل التاجر من أسئلة هذا الزبون الذي لا يصدق التاجر ، ويصل كل منهما إلى نتيجة أن الآخر أحمق وأبله ، ومجنون مأفون .
بعد الأسئلة ا لكثيرة ، صار التاجر يتبرم غيظاً من هذا الأهبل الذي لايصدق أن البشر بحاجة اليوم لهذه المواد التي يبيعها .. وبعد لأي ، قال التاجر للزبون الجديد : ” يا بني ، ليس لدي وقت للمزاح .. ابحث لك عن مكان للعبث والتسلية غير هذا ، إذا كنت لا تريد الشراء ، فخير لك أن تنصرف .”
التاجر يتعامل بجدية ، والزبون – الراوي لا يزال في شك وأن هذا الرجل ليس سوياً . وهو يريد التسلية .. لكن يتقلب الأمر من تسلية إلى جد ، عندما يسأله :وكيف تبيع بالوزن ؟ فيقول التاجر : نحن لا نبيع بالرطل و الكيلو والإقة والقدح .. إن مقياس البيع هنا بالزمن ، فيمكنك أن تأخذ مقدار شجاعة يوم ، أو عشرة ، أو إن شئت ما يكفيك شجاعة مدى العمر ، ويزداد الزبون دهشة عندما سأله عن الثمن .. فيجيب التاجر :
” الحساب ليس الآن ، هنا لا نقبض ثمناً ، فالحساب يوم الحساب .” هنا ، يشفق الزبون على التاجرأكثر ، ويرثى لحاله ، ويتصنع الجد في حديثه فيقول له :
– ياحاج .. لقد ضيعت عمرك سدى ، إذا كان الأمر كما تقول ، فلماذا لا تأخذ لنفسك جرعة تدفع بك بين عظماء القوم وتكفيك مشقة الجلوس بين هذه الأكياس في هذه الوحدة المضنية ؟ فينظر التاجر إليه نظرة استخفاف ، توحي بأن السائل مجنون .. ويقول له أتظن أنني حتى الآن لم آخذ منها ، إن طباخ السم يدوقه . ويتبين أن التاجر قد تناول من كل البضاعة التي في الأكياس : شجاعة ، عفة، تضحية ، مروءة ، نزاهة …إلخ . وكان يظن أنها تدفع به إلى مصاف العظماء ، لكن سهمه طاش وخاب أمله .. فيسأل : ” هل تظن أن زعماء هذا الزمن يجب أن تتوافر فيهم هذه المزايا وهذه الأخلاق ؟ أنت أبله ياسيدي – و لاتؤخذاني – أترى لو كان في ذلك شيء من الصحة .. أكنت ترى هذه البضاعة مكدسة على الرفوف في أكياسها لا يقربها إنسان ؟ تبين أن التاجر قد تناول جرعة من كل أكياس الأخلاق ، وحاول أن يخوض معركة الحياة مسلحاً بالأخلاق ، فانتهى به الأمر إلى أن اتهم بالجنون .. ومع ذلك بقي مُصراً على تجارة الأخلاق .. وهو يعلم أنها بضاعة بائرة كاسدة . عندئذ ، خطر للزبون : ” مادام هذا الأحمق المجنون قد أخفق في كل ما ما فعل بتجارة الأخلاق ؛ لماذا لا يحاول أن يتاجر بالصنف الآخر : النفاق والجبن والكره والرياء والخسة والكذب والغش ؟! ” ومن جديد يستخف التاجر بالزبون ويقول له متهكماً : لقد نفدت تلك البضاعة كلها من عندي ولم يبق منها شيئاً . لقد تهافت الناس عليها ، واشتروها . ولم يبق منها ذرة واحدة . فالحانوت فيما مضى من الزمن كان يكتظ بكل أنواع البضاعة ، وأقبل الناس يتزاحمون وكلهم يطلب : النفاق ، والجبن والمكر والخسة والكذب والغش .
بعد هذا الحوار الطويل ، وقد حاولت اختصاره ، يبدو أن الزبون اقتنع بكلام التاجر فأخذ جرعة من مسحوق الشجاعة لمدة عشرة أيام ..
ومن هنا تبدا أحداث الرواية :
لكن سأكتفي بشاهد واحد من فصول شجاعته هو موقفه من الجامعة العربية :
فبعد أن أقحم نفسه في أمور عديدة ، استخدم فيها شجاعته ، لكن وجدها عادية ، فأراد أن يكبح جماح هذه الشجاعة ليوجهها إلى عمل جليل ، وكبير يستحق الشجاعة .. فتذكر القضية التي تلح عليه جداً ، وكبيرة ، وتستحق هذه الشجاعة ، هي : فلسطين !! فلسطين الجريحة .. فيقول :
” ياأمة العرب ياأمة الخطب يا أمة الحفلات والمآدب ، والله ماكان خطبكم إلا خطوباً . وما كانت مآدبكم إلا مآرب .. إن العدو ينهش جسدكم فلا تفعلون شيئاً سوى العويل والصراخ ، إن الأنذال يسبون نساءكم ويذبحون أطفالكم ، وأنتم تجتمعون وتنفضون وتحلون وترحلون ثم تتشدقون بعد ذلك بشجاعة أيها العرب يا أشباه الرجال ولا رجال .”
ويتابع :” إن اليهود الذين فرقهم الله في الأرض شيعاً .. قد فرقوكم شيعاً . إن اليهود الضالين قد أضلوكم ، إن اليهود الجبناء قد جعلوا منكم جبناء ، ياأمة العرب ، ياأمة الخطب ، ياأمة التعاسة .. ياأمة الجهل .. ياأمة الهزل .. و ” ياأمة ضحكت من جهلها الأمم ” ” ..
وبدأ يعرض الوضع القتالي في فلسطين . فلا يرضى عن قتال العرب .. فأراد أن يستعين بشجاعته ويجعل منها قوة دافعة للزعماء العرب النائمين ، الذين سيجتمعون في دار الأمانة العامة للجامعة العربية .. وعندما وصل إلى الجامعة العربية ، لفت نظره لافتة كتب عليها ( الأمانة العامة ) ، فشرع بنزعها ، وعندما تقدم الحارس وسأله ماذا يفعل ؟ قال ببرود أعصاب وثقة : ( سأغير اللافتة) ، لم يناقشه الحارس ، لظنه أنه مكلف رسمياً بتغيير اللافتة . وكان ينوي أن يضع مكانها لافتة بخط عريض : ( الخيانة العامة ) . لحظتئذ ، وصل الأمين العام لجامعة الدول العربية ، محاطاً بكوكبة من الحراس المسلحين ، تسبقه سيارات وتتبعه سيارات ، تتقدمها دراجات نارية .. ويتعجب صاحبنا من هذه الحفاوة ، وهذه الحراسة المشددة . ويسأل: من هذا ؟ ولماذا هذه الحراسة المشددة ؟!! فيقولون له إنه الأمين العام …وهذه الحراسة خوفاً من أن يغتاله الصهاينة ..فهو الذي يحرك الجامعة !! وهو رجل الأسرار ..
يندهش الرجل من هذا الكلام ، فياللسخرية ! وياللعجب !! من رجل الأسرار ، فيقول : ” لا تذكرونا بالأسرار بالله عليكم ، فكم اجتمعت الجامعة في بلودان وفي الزعفران …وقيل لنا وقتذاك .. هس ْ إياكم أن تتكلموا . لقد وضعت الجامعة قرارات سرية خطيرة جداً ستذاع في حينها ، إذا مادقت الساعة ! وتوقعنا لليهود بئس المصير “.
لكن سخريته كانت أكبر ، عندما قيل له إن الصهاينة سيغتالون الأمين العام : و “قلت : هذه والله سخرية ، فما أظن أن الصهايتة قد بلغوا من الغباء بحيث يفكرون في هذا الرجل أو الأعتداء عليه …ولوكنت منهم لتطوعت لحراسته ..ولدعوت له ليل نهار بدوام البقاء وطول العمر ..وأن يحفظه الله للأمانة العامة .. وللصهاينة عامة “.
كتب يوسف السباعي هذا الكلام عام 1949 ، وأن أحداً من الحكام العرب ، لم يقم وزناً لهذا الكلام .. وخلال خمس وسبعسن سنة توضحت مآرب الجامعة العربية .. ويوسف السباعي الذي كشف آفة النفاق : في البيت والشارع والدائرة الحكومية والمؤسسة وحتى مع المتسولين ؛ كان أول من كشف تآمر الجامعة على فلسطين . وأهل فلسطين ، وقضية فلسطين .ولكن متى يعرف السبب يبطل العجب ..
أما عن بقية بطولات صاحبنا – فللعدد القادم …
(موقع سيرياهوم نيوز-1)