يزجّ ماكرون من خلال مواقفه المتماهية مع المواقف الأميركية والإسرائيلية ببلاده في خضم نزاعات خطرة، ويعلن بما لا يترك أي مجال للشك أن النظرية الجديدة التي تتبعها فرنسا اليوم هي نظرية صراع الحضارات.
يبدو أن استمرار فرنسا بالمسار نفسه في سياستها الخارجية، وخصوصاً تجاه منطقتنا، ينبئ باتجاهها نحو تكريس نفسها تابعاً للولايات المتحدة الأميركية. كل المحاولات التاريخية التي أسس لها ديغول أسقطها الرئيس ماكرون من خلال موقفه من الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة.
هذا الأداء لم يكن مفاجئاً. الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه بالتدرج. كل الخطابات التي ألقاها ماكرون وأوحت بأنه يحاول استعادة المجد الديغولي بقيت ثرثرة من دون أي ترجمة عملية.
خلال زيارته الأخيرة لـ”إسرائيل”، تخلى ماكرون عن الحد الأدنى من التوازن تجاه قضايا منطقتنا، وهو ما اعتمدته فرنسا في مراحل تاريخية مختلفة. بعد الحرب العالمية الثانية وقيام “إسرائيل”، حاول الفرنسيون آنذاك تبني سياسة السير بخطين: تأييد “إسرائيل” من جهة، ومراعاة مشاعر العرب والمسلمين من جهة أخرى، إلا أن باريس سرعان ما تراجعت عن الخط الثاني بسبب التضامن العربي مع الثورة الجزائرية. وقد أدى وصول الاشتراكيين المعروفين بتأييدهم “إسرائيل” إلى الحكم إلى الذهاب بعيداً في العلاقة معها.
في تلك المرحلة، قامت فرنسا بتسليح “إسرائيل” وزودتها بالوسائل التقنية والعملية لإنتاج السلاح النووي، ثم كانت مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر إلى جانب بريطانيا و”إسرائيل”، ما دفع الدول العربية، باستثناء لبنان، إلى قطع علاقتها بها عام 1956.
وصل التأييد الفرنسي لـ”إسرائيل” في تلك المرحلة إلى مستويات متقدمة، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي يومها جي موليه بقوله: “ما دام هناك خبز لفرنسا، هناك خبز لإسرائيل”.
شهد المزاج الفرنسي الرسمي تغيراً ملموساً مع وصول ديغول إلى السلطة. ترجم هذا التغيير عام 1967 بإبداء ديغول استنكاره نشوب حرب الأيام الستة وما استتبعها من احتلال “إسرائيل” أراضي عربية، ثم بإصرار فرنسا على أن تتضمن النسخة الفرنسية للقرار 242 عام 1967 النص على “الانسحاب من الأراضي المحتلة”، وليس “الانسحاب من أراضٍ”، كما جاء في النسخة الإنكليزية.
هذا الموقف من “إسرائيل” لم يكن منفصلاً عن رفض فرنسا الهيمنة الأميركية على أوروبا من خلال الدور الأميركي المتقدم في الحلف الأطلسي، ما دفع ديغول إلى تجميد مشاركة فرنسا في الحلف الأطلسي.
عند مغادرة ديغول الرئاسة، كانت العلاقة مع “إسرائيل” في أسوأ حالاتها، والعلاقة مع العرب في أحسنها. هذا المزاج الديغولي استمر لسنوات بعد ذلك، إلى درجة أن الحظر النفطي الذي فرضته الدول العربية المنتجة للنفط عام 1973 لم يشمل فرنسا.
هذا الموقف العربي الإيجابي جاء نتيجة أداء فرنسي متمايز أثناء حرب تشرين 1973. في مثل هذه الأيام منذ 50 عاماً، أدت فرنسا دوراً اعتبر إيجابياً ومتوازناً ومؤثراً في إطار المجموعة الأوروبية التي أصدرت بياناً أوضحت فيه عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة وضرورة إنهاء احتلال الأراضي الذي ما زال مستمراً منذ عام 1967.
وحين تم التوقيع على اتفاقية كامب دايفيد عام 1978 بين مصر و”إسرائيل”، انفردت فرنسا بموقف أبدت فيه تحفظات على الاتفاقية، وعبرت عن خشيتها من “هذا الحل المنفرد الذي يقلق التوازن في منطقة للجميع فيها مصالح حيوية”.
واعتبرت فرنسا أن “عدداً من الشروط الواجب توافرها لم تتوافر في الاتفاقيات المنعقدة”، إلا أن هذا الاتجاه انتهى مع وصول ميتران المنحاز إلى “إسرائيل” إلى سدة الرئاسة، والذي عبر منذ حملته الانتخابية عن دعمه وانحيازه السافر إليها.
بعد 14 عاماً، حاول شيراك التمايز. أدت فرنسا دوراً مهماً في تفاهم نيسان 1996 الذي تم التوصل إليه بعد عملية “عناقيد الغضب” التي شنتها “إسرائيل” على حزب الله في لبنان، إلا أن “تل أبيب” بذلت بالتعاون مع الولايات المتحدة جهوداً من أجل إبعاد فرنسا عن أي دور فعال في اللجنة التي تم تأليفها لمراقبة تطبيق الاتفاق.
لم تتوقف “إسرائيل” عن التعبير عن انزعاجها من الأداء الفرنسي. لكن السياسة الخارجية الفرنسية لم تكمل على هذا المنوال، فسرعان ما انعطفت، وخصوصاً فيما يتعلق بالشرق الأوسط.. حيث يمكن الحديث عن تحول لمصلحة “إسرائيل” منذ عام 2005 مع زيارة أرييل شارون لباريس.
هذه المواقف السياسية ترافقت مع أداء إعلامي لا يقل تأرجحاً. يقول الكاتب الفرنسي آلان غريش في إحدى مقالاته إن “الصحافة الفرنسية كانت منحازة إلى إسرائيل بصورة هائلة أثناء حرب 1967، على عكس موقف ديغول والشيوعييين”، إلا أن الأمور لم تبقَ على حالها.
يوضح غريش: “أثناء الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وكذا مع بداية الانتفاضة الثانية، كانت وجهة النظر الفلسطينية تحظى بعرض موسع وبإصغاء جيد”، إلا أن ما يسميه غريش “انزلاقاً” للإعلام الفرنسي نحو كفة “إسرائيل” سرعان ما حصل ابتداء من السنوات الأخيرة لحكم شيراك، وذلك لسببين: تنامي الموقف المؤيد لـ”إسرائيل” من جانب الحكومة الفرنسية في تلك المرحلة، وبروز تأثير “الشبكات المؤيدة لإسرائيل”، وخصوصاً في زمن الرئيس ساركوزي.
مصطلح “الشبكات المؤيدة لإسرائيل” استخدمه الكاتب بلان رو في كتابه “ساركوزي، إسرائيل واليهود”. جاء في الكتاب الذي أثار الكثير من الجدل أن “إسرائيل صارت خارج نطاق النقاش الديمقراطي في فرنسا”، وذهب الكاتب إلى حد طرح السؤال المعبر التالي: “هل أصبحت فرنسا بلداً صهيونياً؟
وأشار إلى مساعٍ تبذل لتحويل المجلس النيابي للمنظمات اليهودية في فرنسا المعروف بالـ”CRIF” إلى لوبي على غرار النموذج الأميركي، وإلى محاولة استنساخ دور الأيباك في إيصال الرؤساء.
وورد في الكتاب أيضاً تفاصيل عن استعانة الشرطة الفرنسية بالشرطة الإسرائيلية في مجال إخماد القلاقل الناشبة في الضواحي، وعن إرسال فرنسا الفرقاطة الفرنسية جرمينال إلى سواحل غزة عام 2009 لكسر المقاومة الفلسطينية التي كانت في تلك المرحلة تتعرض للقصف بالأسلحة المحرمة دولياً، والتي كان أطفالها يذبحون بالمئات.
هذا النفوذ الإسرائيلي المتنامي تحدث عنه آلان غريش في كتابه “الإسلام والجمهورية والعالم”. لفت الكاتب إلى دور “ثلاثي” يتكوّن من برنارد هنري ليفي وآلان فينكير كروت وبيني ليفي الذين تحولوا إلى ممثلين إعلاميين لليهود في فرنسا.
وتحدث عن وسائل إعلام تعلن أن “الجيش الإسرائيلي هو الجيش الوحيد في العالم الذي لديه شريعة أخلاقية مكتوبة”، وصحافيين يشرحون كيف أن الجدار العازل الذي بنته حكومة شارون في الضفة الغربية “متوافق مع الشرعية الدولية”، وصولاً إلى الترويج لسردية أن “إسرائيل وفرنسا تواجهان عدواً واحداً هو تيار التعصب الإسلامي”.
يبدو بوضوح أن هذه الأفكار حملها ماكرون معه في زيارته الأخيرة لـ”إسرائيل”. ظهر الرئيس الفرنسي بمظهر من يضحّي بالأخلاق والعدالة والقانون الدولي.
يزجّ ماكرون من خلال مواقفه المتماهية مع المواقف الأميركية والإسرائيلية ببلاده في خضم نزاعات خطرة، ويعلن بما لا يترك أي مجال للشك أن النظرية الجديدة التي تتبعها فرنسا اليوم هي نظرية صراع الحضارات، متبنياً ما قاله هرتزل مؤسس الصهيونية: “إسرائيل هي طليعة الحضارة في التصدي لجحافل الهمجية”.
كل ذلك من دون الالتفات إلى الأضرار الكبيرة الناجمة عن هذه السياسة التي ستعمق ضمور الدور الفرنسي في منطقتنا.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، نشرت مجلة التايم الأميركية ملفاً عن “موت الثقافة الفرنسية”، ما أثار جدلاً كبيراً في فرنسا. ويبدو أن الموت القادم سيكون من نصيب السياسة الفرنسية في منطقتنا على الأقل.
سيرياهوم نيوز 2_الميادين