د. عبد الحميد فجر سلوم
معروفٌ عن أردوغان أنه ليس تلك الشخصية السياسية المُسالِمة، والمعتدلة، بل كان دوما يُجسِّد العنجهية العُثمانية المُتعالية والعنيدة والمُتغطرسة والعدوانية عبر التاريخ. وهو وصل للحُكم من خلالِ حزبٍ إسلاميٍ يتغنّى بذاك التاريخ، ويرى فيه أمجاد تركيا.. وكم تفاخَرَ أردوغان ذاته بذاك التاريخ.
أردوغان هدفَ من خلال حزبهِ الإسلامي (العدالة والتنمية) إلى إحياءِ وبعثِ الروح العثمانية في الشعب التركي، وهذا ما كان أحمد داوود أوغلو(وزير خارجية أردوغان ثم رئيس وزرائه سابقا) قد أشار إليه في كتابهِ (العُمق الإستراتيجي) منذ عام 2001، وقامت نظرية أحمد داوود أوغلو على ركيزتين: الموقع الجيو سياسي الحيوي لِتركيا، الذي جعلها قاعدة متقدمة لِحلف الناتو طيلة زمن الحرب الباردة،
والركيزة الثانية هي العُمق التاريخي، وهذا يعني تاريخ أجداده العثمانيين والإمبراطورية الواسعة التي أسّسوها على حساب استعمار الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب العربية. وهذا الإرث بالنسبة لجماعة حزب أردوغان، وباعتقادهم، يؤهِّلهم ليلعبوا دور الدولة القوية على مستوى المنطقة والمحيط الجغرافي، والعالم الإسلامي، وآسيا الوسطى، ومنطقة القوقاز، والبلقان، وشرق المتوسط، وحتى على المستوى الأوروبي، والعالمي. وأردوغان كان ناشطا على معظم هذه الساحات.. وجاءت الحرب في أوكرانيا، وفي جنوب القوقاز (ناكورنو كاراباخ) والأحداث التي حصلت قبل ذلك في الساحة العربية، في ليبيا وتونس ومصر وسورية، وأيضا في الساحة الخليجية (القطيعة بين بعض الدول العربية وقطَر) كل ذلك ساعدَ أردوغان في تعزيز نظريتهِ بِبعثِ دور تركيا واستحضار زمن العثمانيين..
**
التركيز في هذا المقال سيكون على دور أردوغان في الحالة السورية.
الجميع يعرف هذا الدور من بدايتهِ ودعمِ أردوغان القوي للأخوان المسلمين الذي ينتمي معهم إلى التنظيم العالمي للأخوان المسلمين (وهو قديم ومقرّه في بريطانيا) وكان الشيخ القرضاوي الذي ينتمي بالأساس لتنظيم الأخوان المسلمين في مصر، أحد المُنظِّرين الأساسيين للتنظيم والمُحرِّضين جدا ضد سورية، لاسيما بعد أن ترأّس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، منذ تأسيسه عام 2004، ويضمُّ في عضويتهِ قيادات من التنظيم العالمي للأخوان..
فكان من الطبيعي جدا أن يدعم أردوغان الأخوان المسلمين في سورية، وكافة التنظيمات الإسلامية، فجميعهم من ذات التطلعات لإقامة دول تحكمها الشريعة الإسلامية.
بل مضى في إحياء النعرة العنصرية القومية لدى تركمان سورية، وأسّس لهم في اسطنبول (المجلس التركماني السوري) منذ آذار 2013، وفي تشرين أول 2019، نظّم لهم مؤتمرا في بلدة الراعي شمال حلب، بعد أن غيّر إسمها إلى (جوبان باي) أطلق عليه اسم (مؤتمر الأمة) وتمّ خلال المؤتمر اعتماد (عَلَم) واحد لمجلس تركمان سورية الذي يضمُّ عدة أحزاب.. وهكذا بات تركمان سورية يعتبرون أنفسهم أمة بحدِّ ذاتها داخل سورية..
هذه أفعال أردوغان في تحريض مكونات الشعب السوري على بعضها.. فكيف سيُؤمَن لهذا الشخص..
**
تصاعدت الأحداث في سورية، وتفاقمت، وتدخلت تركيا عسكريا(والموضوع طويل) ولكن أخيرا احتلّ أردوغان مساحة تُقدّر بـ 8830 كم2 من أراضي سورية في الشمال تحت ذريعة الأمن القومي لتركي.. أي أكبر بسبع مرّات من الأرض التي تحتلها إسرائيل من الجولان. والأخطر هي سياسة التتريك التي اتّبعها أردوغان في تلك المناطق، فكل شيء فيها بات تُركياً، من أسماء شوارع وأحياء وساحات، ومناهج تعليمية وتربوية، وعِملة نقدية، وقوانين وجامعات.. الخ.. وكأننا في أراضٍ داخل تركيا ولسنا في أراضٍ سورية.. وهذه ذات السياسة التي اتّبعوها سابقا في لواء اسكندرون السليب.
هنا يكمن جوهر الخلاف.. فدِمشق تطالب أردوغان بالانسحاب من هذه الأراضي قبل أي لقاءات عالية المستوى.. وأردوغان يريد اللقاء من دون أي شروط مُسبَقة.
**
أردوغان صرح يوم الإثنين في 17 تموز / يوليو، 2023، يعني في مثل هذا الشهر العام الماضي، قائلا (انسحاب الجيش التركي من شمالي سورية غير ممكن، إذ أن قواتنا هناك تكافح الإرهاب والتنظيمات الإرهابية..) فهل التنظيمات الإرهابية التي يعنيها أردوغان انتهت؟.
وكان قد صرّح في 9 تشرين ثاني / نوفمبر 2019 قائلا:(لن ننسحب من سورية قبل انسحاب الدول الأخرى..) فهل الدول الأخرى التي قصَدها أردوغان انسحبت؟.
موقف أردوغان لم يتغيّر، ولكن اللهجَة واللغة التي يتحدّث بها، هي فقط من تغيّرت.. أي أصبح يتحدّث بلغة دبلوماسية ناعمة وعاطفية على غير عادته، وإلى حدّ دعوة الرئيس بشار الأسد لزيارة أنقرة..
لا أستطيع أن أتكهّن بما سيحصل، ولكن واضح أن هناك ضغوطا روسية تنطلق من خدمة مصالح روسيا في علاقاتها مع تركيا، وفي صراعها مع الناتو في أوكرانيا.
مساعي أردوغان ليست جديدة، ففي أواخر 2022 وبداية 2023 طرح ذات المبادرات، بل وضعَ خريطة طريق لعودة العلاقات مع دمشق، وتحمّست لها موسكو بقوة وقتها، ورتّبت لقاء بين وزيري الدفاع السوري والتركي في أواسط كانون ثاني من ذات العام، ولكن لم يُثمِر عن شيء، لأن أسباب الخِلاف وهو احتلال تركيا للأراضي السورية، ودعمها للإرهاب وجبهة النصرة، هذه لا ترغب تركيا بمناقشتها أولا.
**
عُقدة أردوغان الرئيسة في الحالة السورية هي منطقة الإدارة الذاتية الكردية شرق الفرات، ومساعي هذه الإدارة لترسيخ الاستقلالية أكثر، وفي شهر آب القادم 2024 سيجرون انتخابات محلية (تأجلت من أيار الماضي، ولا نعرف إن كانت ستتأجّل أيضا) وهذا سيكون مقدمة لانفصال هذه المنطقة، وقيام دويلة كردية بقيادة قوات سورية الديمقراطية (قسَد) التي تُشكِّلُ “ وحدات حماية الشعب الكردي” (واي بّي جي) العمود الفقري بها، وهذه تتبع لِحزب الإتحاد الديمقراطي الكردي (بّي واي دي) التي يعتبرها أردوغان الفرع السوري من تنظيم (بّي كي كي) التركي، الذي يقبع زعيمهُ “عبد الله أوجلان” في السجن منذ شباط 1999..
وهذه بطبيعة الحال (قسَد) ليست سوى جيشا أمريكيا في شمال شرق سورية، فيهِا من شتّى المكونات العِرقية أو القومية في تلك المناطق، وتُشكِّلُ حالة انفصالية عن الجِسم السوري بدعمٍ وتمويلٍ وتسليحٍ أمريكي، ولخدمة أجندات أمريكية..
أردوغان من خلال المُصالحة مع دمشق يهدف لدفعها للاشتباك مع قوات سورية الديمقراطية، وهو يقدِّم دعم ومساندة، ولكن لا يشترك بالحرب خشية من الولايات المتحدة.. وهذا ما سبق أن أشار إليه بالماضي..
فأردوغان لا يُميِّز بين أن المشكلة في شرق الفرات تبقى مشكلة سورية داخلية، وحلها في إطار الحل السوري الشامل، بينما المشكلة مع أردوغان هي مشكلة احتلال تركي خارجي، ويجب التمييز بين الأمرين.
فضلا عن أنّ المعركة مع شرق الفرات تعني المعركة مع الولايات المتحدة التي تدعم وتُسلِّح قوات سورية الديمقراطية، وتنظر إليها كقوات عسكرية رديفة تابعة لها.. ولذلك هذا الأمر لا يمكن الغوص به بهذه البساطة التي يريدها أردوغان. فهو ذاته لا يجرؤ أن يقترب خطوة من تلك المناطق بدون ضوء أخضر أمريكي..
هذا جوهر الموضوع بالنسبة لأردوغان، ومن ثمّ تأتي مسألة إعادة اللاجئين السوريين من تركيا، والذين شجّعهم أردوغان على ذلك بالماضي حينما طرح نظرية (المُهاجرين والأنصار) ولكنه ضاق اليوم ذرعا بالمهاجرين، واشتعلت الحرب بين المهاجرين والأنصار..
وتأتي المسألة الثالثة وهي مساعي أردوغان لتعديل اتفاقية أضنة لعام 1998 والتي سمحت لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لمسافة خمسة كيلومترات لملاحقة حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) وزيادة المسافة لتصل إلى ما بين 20 و 30 كيلو متر..
**
هذه هي الأهداف التي يُناور أردوغان لتحقيقها، ويعتقدُ أن الكلام الدبلوماسي والعاطفي والناعم كافٍ لذلك..
ولذلك إن كان أردوغان صادقا فعلا في نواياه فيجب أن ينسحب من سورية، أو على الأقل يضع جدولا زمنيا للانسحاب، بضمانة وكفالة روسية، ويُسلِّم هذه الأراضي للقوات السورية، وإلا هو يريد أن يأخذ ولا يُعطي، أو أن يشتري أثمَن الأمور بأبخس الأسعار، كما أي تاجر شاطر.. وهذا لن يصُحّ لأنه مخالفٌ لكل منطق..
**
يكفي ما أخذتهُ تركيا من سورية منذ سايكس بيكو.. فسورية الكُبرى كانت تمتد من أضنَة شمالا وحتى حدود فلسطين مع سيناء جنوبا.. وحينما عُقِد المؤتمر السوري العام في عام 1920 كان المندوبين يمثلون كل هذه البقاع الجغرافية، وعددهم حينها 107 ، وأعلنوا قيام المملكة السورية في 8 آذار 1920 .. ولكن قامت فرنسا باقتطاع مساحات شاسعة من هذه المملكة وضمتها إلى متصرفية جبل لبنان، ثم قامت بريطانيا باقتطاع إمارة شرق الأردن، ووُضِعت فلسطين تحت الوصاية البريطانية، وأعطوها للصهاينة.. ثم تنازلت فرنسا لتركيا عام 1921 بموجب اتفاقية أنقرة، عن السناجق التالية ( أضنة، مرعش، كلِّس، أورفا، ماردين، نصيبين، جزيرة ابن عمر) هذه كلها كانت من ضمن سورية الكبرى، وحتى من خريطة سايكس بيكو، وكانت من ضمن معاهدة سيفر عام 1920 التي وقعتها الدولة العثمانية المهزومة مع الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى،، ثمّ غيّروها باتفاقية لوزان 1923 ، وأصبحت ظُلما وعدوانا من ضمن الأراضي التركية وتبلغ مساحتها 18 ألف كيلو متر مربع.
وفوقها تنازلت فرنسا لتركيا عام 1938 عن لواء اسكندرون ومساحته 4800 كم2 ، وضمّتهُ عام 1939 فخسرت سورية 40% من ساحلها على المتوسط.. وفوق كل ذلك ما زالت إسرائيل تحتل من جنوب سورية في الجولان 1200 كم2 منذ عدوان 1967 .. فأين نحنُ اليوم من حدود المملكة السورية التي قامت عام 1920 !.
وتبقَى بالقانون الدولي حدود سورية هي تلك المرسومة في معاهدة سيفر، وحتى يمكن رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية بهذا الشأن..ومُجرد إثارة هذه القضية إنما يبعثُ برسالةٍ قوية لتركيا أن السوريين لن ينسوا أراضي بلدهم الأصلية والتاريخية مهما طال الزمن، وأن تركيا دولة مُحتلّة لأراضٍ سوريةٍ شاسعة..
**
فرنسا أساءت جدا لسورية عبر تاريخها الاستعماري.. وتركيا لم نعرفها سوى دولة استعمارية توسعية..
ما حكَّ جِلدَكَ مثلُ ظِفرِكْ فتـولَّ أنتَ جميعَ أمرِكْ .. هذا قولٌ عظيمٌ للإمام الشافعي.
فلا بديلا عن تفاهم السوريين مع بعض..
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم