ريم هاني
الفلبين تزداد عدائية وتستعد لاحتلال جزر بحر الصين الجنوبي
يعدّ بحر الصين الجنوبي، الذي يمثل جزءاً من المحيط الهادئ، معبراً لنحو ثلث الشحن البحري في العالم، بقيمة إجمالية تبلغ أكثر من 3 تريليونات دولار أميركي سنوياً. وهو يضمّ عدداً كبيراً من الجزر، يمكن تقسيمها إلى أربعة أجزاء: الجزر الوسطى (جونغشان)، والجزر الغربية (سيشا)، والجنوبية (نانشا)، والشمالية الشرقية (دونشا). وقد أصبحت بعض تلك الجزر محط اهتمام الكثير من المراقبين بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، بسبب «الحراك» الأميركي غير المسبوق فيها، والذي يفاقم التوترات بين دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولا سيما بين بكين ومانيلا. في ما يلي، مقابلة مع السفيرة الصينية السابقة لدى الفلبين، ما كه تشينغ، تشرح فيها الأسس التاريخية والقانونية للنزاع مع مانيلا في بعض أجزاء بحر الصين الجنوبي.
س: على ضوء الأحداث الأخيرة التي شهدها بحر الصين الجنوبي، هل أصبح في الإمكان القول إن الوضع هناك بات أكثر خطورة مقارنة بالسنوات السابقة؟
ج: في عهد الإدارة الفلبينية السابقة، كانت مانيلا أكثر ميلاً إلى زيادة التعاون والتواصل مع الصين، وتم حتى التوصل إلى اتفاقية شفهية (Gentleman Agreement) بين الطرفين، أكدت ضرورة الحفاظ على الوضع الراهن وعدم تصعيد التوترات في بحر الصين الجنوبي، أو السعي إلى بناء أي منشآت دائمة في الجزر المتنازع عليها. وطوال السنوات الخمس من حكم تلك الإدارة، لم تكن هناك أي حوادث تُذكر في المنطقة. في المقابل، ورغم أنّ سفارتنا في الفلبين كانت تبحث مع الإدارة الحالية ومع الرئيس، بونغ بونغ ماركوس، إمكانية تمديد تلك الاتفاقية، وموافقتهم، إلى حد ما، على الخطوط العريضة لها، والتزامهم بها لبعض الوقت حتى، إلا أنّهم سرعان ما تخلوا عنها، وأصبحوا حالياً ينكرون وجودها أصلاً، ويؤكدون أنّه حتى في حال وُجدت، فهم سيقومون بإسقاطها. وبرأيي، فإنّ السبب خلف هذه العدائية، هو أنّ الفلبين تحظى بدعم متزايد من الولايات المتّحدة واليابان، وهي تعول عليه لتزداد عدائية، حتى أصبحت تمدّ قواتها بالموارد اللازمة لاحتلال الجزر، أي إن المشكلة الرئيسة تأتي من أطراف من خارج المنطقة. ومن أبرز التطورات الأخيرة في هذا الصدد، انعقاد القمة الثلاثية بين اليابان والولايات المتحدة والفلبين، وإجراء الدول الثلاث تدريبات عسكرية غير مسبوقة في بحر الصين الجنوبي، ووضع الولايات المتحدة صواريخ باليستية متوسطة المدى للمرة الأولى في الفلبين.
س: تؤكد الصين بشكل متزايد أخيراً على أحقيتها «التاريخية» في بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي. ما هي «الأسس» التي تبني بكين عليها موقفها؟
ج: أولاً، تجدر الإشارة إلى أنّ النزاعات تشتد بشكل أساسي، في المدة الأخيرة، حول جزيرتَي «هوانغيان» (الوسط) و«رنآي جياو» (الجنوب)، وسأتحدث عن كلّ منهما بالتفصيل في وقت لاحق. لكن بصورة عامة، عاش الصينيون وعملوا في جزر بحر الصين الجنوبي منذ أكثر من ألفي عام، وكانوا أول من اكتشفها. بعد اكتشافها، طوّر الصينيون هذه الجزر، كما فرضت الحكومات الصينية المتعاقبة إدارتها عليها. ومنذ بداية القرن الثاني قبل الميلاد، خلال عهد سلالة هان، بدأ الصينيون يبحرون في بحر الصين الجنوبي. على سبيل المثال، أجرت الصين، في القرن الثالث عشر، خلال عهد سلالة يوان، دراسات أسترولوجية واقتصادية في الجزر الموجودة هناك، بما في ذلك في «جزيرة هوانغيان». وتتالت، مذّاك، الرحلات إلى تلك الجزر. عام 1908، في عهد سلاسة تشينغ، أرسلت الصين أسطولاً من ثلاث سفن في مهمة لإجراء عمليات مسح، ووضع البحارون علامات على الجزر. آنذاك، كانت السفن تحمل علماً عليه التنين الأصفر. تلت هذه المهمة جولة تفقدية على متنها 170 مسؤولاً ورجلاً، تفقدوا نحو 15 جزيرة، ووضعوا عليها العلم الصيني وأحجاراً تحمل أسماءها. طوال كل المدة المشار إليها، كانت الفلبين تخضع لحكم الإسبان، ولم تنل استقلالها قبل عام 1946. في وقت لاحق عام 1947، أصدرت الحكومة الصينية، للمرة الأولى، خريطة لجزر الصين في بحر الصين الجنوبي، وحددت أسماءها، ثمّ عممتها عام 1948.
النزاعات تشتد بشكل أساسي، في المدة الأخيرة، حول جزيرتَي «هوانغيان» (الوسط) و«رنآي جياو» (الجنوب)
س: من منظور قانوني، ما هي أبرز الاتفاقيات الدولية التي تستند إليها الصين للتأكيد أن هذه الجزر هي جزء من أراضيها؟ وما هي، في المقابل، تلك التي تستند إليها الفلبين لتبرير ممارساتها في بحر الصين الجنوبي؟
ج: بعد تأسيس «جمهورية الصين الشعبية» عام 1949، أصدر رئيس الوزراء ووزير الخارجية الصيني الأسبق، تشوان لاي، 51 بياناً، تعقيباً على معاهدة السلام التي وقعتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع اليابان، «ومؤتمر سان فرانسيسكو»، معلناً أن الجزر التي كانت اليابان قد احتلتها لبعض الوقت هي جميعها صينية. وبعد نهاية تلك الحرب، واستناداً إلى «إعلان القاهرة» الذي نص على أنّ كل الأراضي التي سرقت من الصين يجب أن تعود إليها، وفي ما بعد «إعلان بوتسدام» الذي نص على ضرورة تطبيق «اتفاق القاهرة»، استرجعت الصين كل تلك الجزر، ومن ضمنها تايوان. هاتان هما الاتفاقيتان الأهم في هذا الصدد. وبالنسبة إلى الفلبين، فقد حددت سلسلة من المعاهدات الدولية حدودها، من ضمنها «معاهدة باريس» عام 1898 بين الولايات المتحدة وإسبانيا، ثمّ الاتفاقية بين الإنكليز والأميركيين عام 1930، وغيرها. وجميع تلك المعاهدات تؤكد أن «جزيرة هوانغيان» خارج الحدود الفلبينية. منذ عام 1990، بدأت الفلبين تطالب بهذه الجزيرة. ولتدعيم ذرائعها، عمدت إلى تفسير «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار» (UNCLOS) بشكل «أحادي الجانب». في الواقع، طبقاً للقانون الدولي، اليابسة تغلب البحر؛ أي بمعنى آخر، عندما تمتلك اليابسة، فيمكنك السيطرة على المساحات المائية الممتدة على نطاق معين حولها. بالتالي، تذرعت مانيلا بأن الجزيرة قريبة جداً منها، وأنها تقع بالتالي ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها. على أن القانون المشار إليه يتمحور حول البحر وليس الأراضي، فيما تُعدّ الجزر أراضي صينية. عليه، نرى أنّ الاتفاقية المشار إليها لا تمنح صلاحية تشجيع أي قوى على توسيع منطقتها الاقتصادية الخالصة لتشمل أراضي تابعة لدول أخرى. وبصورة أعم، فإن القرب الجغرافي لا يوفر الأساسات القانونية للسيادة على الأراضي، وهذا مفهوم جداً في عالم اليوم، إذ تتمتع عدد من الدول بسيادة على أراض بعيدة عنها وأقرب بكثير إلى دول أخرى.
س: يبدو أن الوضع في الجزر الجنوبية (نانشا)، وتحديداً في ما يتعلق بجزيرة «رنآي جياو»، هو الأكثر تعقيداً، ويشهد التطورات الأهم أخيراً، علماً أن التوترات كانت بدأت تستعر في تلك المنطقة منذ ما يزيد على عقدين، على خلفية وصول سفينة فلبينية إلى ساحل الجزيرة عام 1999. كيف تصفون المشهد هناك؟
ج: بالفعل. عام 1999، أبحرت سفينة حربية فلبينية إلى تلك الجزيرة، ورست على ساحلها بذريعة حصول تسرّب للماء فيها. بطبيعة الحال، اعترضت الصين وطالبت بإزالة السفينة فوراً اعتباراً منها أنّها متوقفة بشكل غير قانوني على أراضيها. ورغم تعهدات مانيلا بإزالة السفينة وإعلانها ألّا وجود لأي نوايا لديها لبناء أي منشأة دائمة على الجزيرة، أو فرض سيطرتها عليها، فقد مرت 25 سنة على هذه الحادثة والسفينة لا تزال هناك، بل إن مانيلا عمدت حتى إلى القيام بإصلاحات واسعة في السفينة وتدعيمها، في محاولة لاحتلال الشاطئ بشكل دائم. بعد مرور كل تلك السنوات، أصبح واضحاً أن مانيلا تسعى إلى بناء ما هو أشبه بقاعدة عسكرية دائمة على الساحل للسيطرة عليه. وأخيراً، زادت من عمليات إرسال كميات كبيرة من مواد البناء إلى السفينة، ودعت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية إلى متنها لتدعيم سرديتها.
س: ما هي الخطوات القادمة التي قد تتخذها الصين لمواجهة عمليات التصعيد الأخيرة؟ وما هي «الخطوط الحمراء» التي قد تدفع ببكين إلى مواجهة عسكرية في المنطقة؟
ج: طوال كل تلك المدة، كانت الصين تمارس سياسة ضبط النفس، وظلت تدفع في اتجاه التبادل السلمي للأفكار. كما كنا نعمل مع دول «آسيان» لإيجاد حلول سلمية لهذه القضية، وتوصلنا معها إلى إعلان بشأن «سلوك الأطراف» في بحر الصين الجنوبي (DOC) عام 2002. ولأننا نعتقد أنّ الحوار والعمل في إطار «آسيان» لحل هذه النزاعات أثبتا فعاليتهما في ما مضى، فنحن ندفع حالياً في اتجاه تطبيق هذا الإعلان. ونظراً إلى أنّنا أصبحنا اليوم أمام وضع جديد ومختلف، وأنه أصبحت هناك حاجة إلى وضع قوانين أكثر فعالية وإلزاماً، فنحن نعمل حالياً مع «آسيان» على «ميثاق السلوك في بحر الصين الجنوبي» (COC). بالطبع، نحن نعارض سياسة إنشاء التكتلات والمجموعات الصغيرة لإذكاء التوترات. لديهم بالفعل «أوكوس»، وسننتظر ونراقب التطورات لمعرفة ما إذا كان التحالف الجديد سيتخذ اسماً قريباً. على مانيلا أن تعلم أنها لن تحقق أي شيء عبر اعتمادها على واشنطن. أما بالنسبة إلى الرد العسكري، فنحنُ متمسكون بسياسة «التنمية أولاً»، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن الحلول السلمية دائماً. فمهمة جيشنا الدفاع لا الهجوم. وإذا تم المس بمصالح الصين الأساسية، عبر الاعتداء على سيادتها أو أراضيها، فنحن سنرد. على أنّ رد الفعل الأولي سيكون على المستويين السياسي والديبلوماسي، فيما يبقى الرد العسكري بمثابة حلّ أخير بالنسبة إلينا.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية