كلّ شيء في دمشق يوحي بثقل الأزمة المعيشية. المدينة التي تضمّ وضواحيها القريبة أكثر من 6 ملايين نسمة، لم تعش الضائقة كما هي اليوم، ويذهب كثير من السوريين، من مستهلكين وباعة وتجار وسياسيين أيضاً، إلى القول إن الأوضاع في ذروة الحرب بكل تفاصيلها، من قذائف هاون وتفجيرات وقطع للطرقات وتخريب للمنشآت المنتجة، لم تصل إلى ما وصلت إليه من مصاعب معيشية أسهمت بها 9 سنوات من الحرب، وعمّقتها الحرب الاقتصاديّة الأميركية، إضافة إلى عوامل داخلية تتّصل بالفساد بكلّ تفاصيله.
واللافت أن القفزات الكبيرة في أسعار السلع، وخصوصاً المواد الغذائية، سبقت إعلان واشنطن تطبيق قانون العقوبات “قيصر” في 17 حزيران/يونيو بأسابيع… ويضاف إليها ضغط حادّ على الليرة السورية منذ مطلع الشهر فعل فعلته في أسواق غير مستقرة أساساً، وهوّة شاسعة بين دخل العائلة السّورية في ظلّ متوسط أجور لا يتجاوز 60 ألف ليرة شهرياً، واحتياجات تزيد على 500 ألف ليرة بالحد الأدنى لعائلة مكوّنة من 5 أفراد، وحالة فوضى في الأسواق لم ينجح معها تشديد الرقابة وجولات وزارية ميدانية، ولا تدخل الحكومة، عبر مئات منافذ البيع التابعة للمؤسَّسة السورية للتجارة، للبيع بهوامش ربح هامشية للغاية.
واقعياً، لا تبدو تلك الإجراءات مثمرة حتى الآن، بل تحوّل بعضها إلى مادة للتندّر بين السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها، مثلاً، تقدير راتب الموظف بما يوازيه في السوق من لحوم أو حلويات وغيرها، بحيث بات راتب موظف درجة أولى لا يتجاوز ثمن 4 كيلوغرامات من اللحم، يعادل الكيلو منها 15 ألف ليرة.. وكذا الأمر في تفاصيل حياتية أخرى، كإيجار العقارات وثمن الأدوية والنقل ورسوم المدارس الخاصة.. وهي تمسّ السواد الأعظم من السوريين، الذين سجلت معدلات الفقر بينهم أكثر من 80 في المائة، بحسب تقديرات غير رسمية.
تشير المعطيات إلى أن لا حلول سحرية أو عاجلة في ملف شديد التعقيد. ثمة إجراءات عاجلة للحدّ من الضغوط على العملة السورية بدأت بتكثيف الحملات على المتلاعبين بسعر الصرف والمتعاملين بالدولار اتخذها مصرف سورية المركزي، تبعها قرار رفع سعر صرف الدولار من 700 ليرة إلى 1256 ليرة للحوالات في المصارف وشركات الصرافة، في محاولة لتشجيع كثير من السوريين في الخارج على تحويل أموالهم إلى ذويهم عبر قنوات مرخَّصة، ما ينعكس إيجاباً على توفير العملات الصعبة التي كانت تدرّ أرقاماً تتراوح ما بين 5 إلى 7 ملايين دولار يومياً كقيمة حوالات.
عناوين التحرك التي طرحتها الحكومة بدت مشجعة، وإن تأخرت كثيراً، من مثل النهوض بالزراعة، عبر استثمار كل المساحات المتاحة، تحقيقاً لشعار الاكتفاء الغذائي، وشراء أكبر كميات من محصول القمح، في محاولة لتقليل فاتورة الاستيراد المرهقة سنوياً، وقد ترجمتها الحكومة برفع سعر كيلو القمح من 200 إلى حوالى 400 ليرة تشجيعاً للفلاحين والمنتجين.
كما أنها رصدت 9 مليارات ليرة لدعم مباشر لمنتجي الدواجن، في محاولة لخفض تكاليف الإنتاج، وإعادة المنشآت المتوقفة إلى العمل، وفتح أسواق بيع من المنتجين إلى المستهلكين في المناطق الشعبية، توفيراً للحلقات الوسيطة في عرض الخضار والفاكهة.
ترافقت إجراءات الحكومة مع جولات ميدانية من درعا جنوباً إلى الحسكة أقصى شمال شرق سوريا، في محاولة لمعالجة ملفات عالقة وتوجيه رسائل طمأنة للسوريين، باستئناف العمل في منشآت وقطاعات متوقفة جراء الحرب وتداعياتها.. وهي خطوات تلت قرار الرئيس بشار الأسد إعفاء رئيس الحكومة عماد خميس، وتكليف وزير الموارد المائية حسين عرنوس برئاسة الحكومة، وقبلها إعفاء وزير التجارة الداخلية عاطف النداف، وتعيين محافظ حمص طلال البرازي بدلاً منه.. خطوتان لاقتا ترحيباً واسعاً على المستوى الشعبي، في رهان على إمكانية دفع العمل الحكومي في توقيت قاس على الاقتصاد السوري.
الرهان الآخر كان قد ألمح إليه رئيس الحكومة المقال عماد خميس أمام مجلس الشعب، بالإشارة إلى إمكانية اللجوء إلى القروض.. خيار بدا أكثر وضوحاً مع محادثات وفد اقتصادي إيراني رفيع المستوى برئاسة حسن دنائي؛ رئيس لجنة تنمية العلاقات الاقتصادية مع سوريا والعراق.
الوفد الذي ضم ممثلين حكوميين وآخرين عن القطاع الخاص، أجرى محادثات بعيدة من الأضواء مع مسؤولين في وزارات النفط والتجارة الداخلية والصناعية والتعليم العالي وقطاع رجال الأعمال السوري.. مع غطاء سياسي عالي المستوى عبّر عنه نائب الرئيس إسحق جيهانغيري في اتصال مع رئيس الحكومة السورية المكلف، تأكيداً على وقوف إيران الصلب إلى جانب سوريا.
وكان السيد حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، قد أكده في خطابه الأخير، بقوله إن “حلفاء سوريا الذين دافعوا معها في الحرب العسكرية لن يسمحوا بسقوطها في الحرب الاقتصادية”.
التعاون مع إيران يكمل مساراً طويلاً يضمن بشكل خاص قروضاً ائتمانية تزيد على 5 مليارات دولار، والتعاون في مجالات النفط والصناعة والتعليم العالي والزراعة والمرافئ… ويتكامل مع حزمة اتفاقيات أبرمتها دمشق مع موسكو، التي أعلنت على لسان نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف أن العقوبات الأميركية على دمشق “لن تؤثر في التعاون في المجالات كافة”.
النهوض بالزراعة السورية التي أنتجت أكثر من 4 ملايين طن من القمح سنوياً قبل الحرب، ونحو مليون طن من الزيتون، ومثلها من الحمضيات، وكميات كبيرة من الخضار، وتشجيع صناعات لطالما ميّزت السوريين، كالألبسة والمواد الغذائية، لتحقيق جزء من الحاجة المحلية، ووضع آلية واضحة لاجتثاث الفساد، تشكل مدخلاً واقعياً للتعامل مع العقوبات الأميركية، وتعيد تركيب بنية الاقتصاد على القطاعات الأساسية المنتجة.. عوامل قادرة على تبديل المشهد الضاغط بوضوح، كما يراهن كثير من السوريين.
سيريا هوم نيوز /4/ الميادين