ما هي مكانة سوريا في السياسة الصينية؟
د. علي الباشا
إنّ إهمال البعدين الاستراتيجيين “الدائرة الصينية والدائرة الأفريقية” الموصى بهما في موروثنا الإسلامي هو أحد الانهيارات المتعاقبة في الشرق الأوسط . فالقارة الأفريقية غنية بمقدراتها وثرواتها ، والحضارة الصينية على مدار القرون احتفظت بثرائها الذي انعكس على حاضرها العلمي و التقني و التجاري ومنحها الجدارة العالمية . ومع أنّها قد شهدت في القرن الماضي صراعات وحروب دامية فقد حولها زعيمها ماو تسي تونغ في مشروع القفزة الكبرى إلى النظام الاشتراكي بالاعتماد على الفلاحين والقوى العاملة.
لا نقول ربَّما ، بل نؤكد أن سورية التي تحررت من نير الاستعمار الفرنسي عام 1946م ، تتشاطر وبكل المقاييس ذات الرؤية مع الصين ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وهو سبق استراتيجي لها يفوق إدراك أغلب الدول العربية التي ربطت مصيرها بالقوى الغربية.
من هنا يمكننا تحسس مكانة سورية الكبيرة لدى الصين التي استخدمت حق النقض (الفيتو) عدة مرات في مجلس الأمن لصالحها منذ العام 2011م ؛ في سابقة لم تفعلها مع أي دولة أخرى. فالصين تعتبر الانسجام الفكري المناهض للإمبريالية الغربية في بلد اسمه ” سورية” واقع في أقصى غرب آسيا ﻻ يقاس بالمسطرة الجغرافية أو يُزان بالحشد الملياري ، يحمل نفس الجينات الفكرية والرؤية المستقبلية . في هذا أصبحت سورية اللبنة الأساسية في البنيان الاستراتيجي الخارجي الصيني، والاستثناء الأيدلوجي لها في المنطقة بسبب التعددية الفكرية فيها والتنوع الحضاري والثقافي واﻻجتماعي لمجتمعها . ولأن الدراسات الصينية تتابع السياسة السورية بعمق، فالساسة الصينيون على معرفة بأدق التفاصيل في الحياة السورية وهم يستشعرون المكيدة الغربية ضد هذا البلد العزيز ، وإن تعبير شعورهم بالقلق على مستقبل سورية صدم الكاتب عبد الجليل زيد المرهون (الصين و المسألة السورية، 2015) الذي كان يتوقع غير ذلك. فالصين لم تجد دواعي للمشاركة العسكرية في الصراع لكنها لن تتخلى عن أيقونة الشرق الأوسط ، وهذا بحد ذاته امتياز يجعل من سورية المجتمع البعيد جزء لا يتجزأ من الثوابت الصينية خارج نطاق الجغرافيا.
***
في خضم الحصار الأمريكي على سورية “قيصر”، وعلى إيران ” نسف الاتفاق النووي ” والتلاعب بالاقتصاد اللبناني، وتحويل اليمن إلى دولة فاشلة، والعراق إلى أحزاب وطوائف، و مصر إلى دولة مُدانة، والخليج إلى دول مُطبّعة ، وتركيا إلى شرطي . فإن معالم مؤامرة كبرى بدأت تتكشف لشعوب المنطقة جعلت روسيا التي تقوم بدور التوفيق بين المتناقضات أشبه ما تقوم بـدور ” البابوشكا”. فمن طرف تتعامل مع إيران لحل الأزمة السورية وتسمح لإسرائيل بضرب أهداف إيرانية في الأراضي السورية. ومن طرف تبيع تركيا منظومة صواريخ اس 400، وتسمح لها بالبقاء في الأراضي السورية ، ثم أنها تدعم الشرعية ووحدة الأراضي السورية وتفتح مكتب يمثل الأكراد المدعومين أمريكياً في موسكو.
اعتقد هذه الإطرائية في التعامل ستمنح القطب الصيني دوراً أكثر نفاذاً وحضوراً أكثر تميزاً. فالصين التي لم تحرك جندياً واحداً خارج حدوها، استطاعت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي و بنفاذ بصيرة قلب الاقتصاد العالمي لصالحها حتى امتلكت فائضاً تجارياً كبيراً وحولت ثلثي احتياطاتها النقدية للدوﻻر من أجل الاستثمار الخارجي واشترت به سندات من الخزينة الأمريكية وأخرى شبه حكومية، لدرجة أنها اشترت والدورف ليجاندري- الجناح الرئاسي ( Waldorf Legendary Presidential Suite ) في نيويورك وركبت فيه أجهزة تجسس عالية الدقة بحيث ﻻ يستطيع الرئيس اﻻمريكي المكوث فيه. وبينما خاضت أمريكا حرب ضروس في العراق ؛ امتلكت الصين أكثر من حصصها في نفطه . إلى جانب أشياء أخرى لا تغيب عن بال المتابع منها نظام جي5 الأكثر تطوراً في مجال الاتصالات العالمية والحملة التي تواجهها من الغرب وأمريكا بسببه. فتعاظم قوة الصين لم تأتِ من عدم بل من عمل دؤوب تخطت فيه اقتصادات دول متصدرة وهي في طور تخطيها الاقتصاد الأمريكي لتصبح الأولى عالمياً.
***
الصين الماوية والصين الحالية تعرف أن برنامج التعويد على الرفاهية الذي عملت عليه الصهيونية الأمريكية في العقد المنصرم لتجفيف الضرع الخليجي قد أتى أؤكله و جعل اقتصاديات وحياة تلك الدول مربوط بالغرب ؛ لدرجة أن علاقاتهم معها لم ترتق سوى لافتتاح أسواق لبيع المنتجات الصينية ، ولم يكن ذلك إلا بضوء أخضر بُعيد إقرار بيل كلنتون مبدأ التجارة مع الصين في العام 2001م. فتعويل الصين على تلك الدول يكاد يكون معدوماً، والتجارب التي شهدتها المنطقة في مفهوم الغرب ” الربيع العربي” كان بمثابة إنذار للصين خاصةً بعد تفرد دول الخليج بما يسمى بـــ / الجامعة العربية التي تآمرت على تدمير العراق وأقرت ضرب ليبيا وتفكيكها ، و تشكيل ما يسمى بالتحالف العربي ضد دولة اليمن، وغيره من تعديات صارخة ضد سورية جعل استياء الصين من تلك الجامعة ودولها كبيراً وهي التي كانت قبل ذلك تتخذ قراراتها على ضوء رؤية العرب الموحدة بما يخص منطقتهم . وحين تعلّق الأمر بتحطيم سورية من قبل العرب قبل الغرب ، وقفت الصين ضد هذا الاتجاه لإدراكها العميق أن كليهما يريد تصفية حسابات قديمة مع سوريا التي اصطفت منذ أمد بعيد مع المعسكر الشرقي.
فاليوم وبعد أن شهدنا اتفاقاً تاريخياً بين الصين وإيران في تموز/2020 أمكننا التنبؤ بأنه تتويج للاتفاق السوري الإيراني فيما تشهده المنطقة من تحولات استراتيجية تبعث على التفاؤل بقدر التشاؤم الذي يحيق بحلفاء أمريكا.
فالتوجه إلى الصين يدعم الحكمة القائلة اطلبوا العلم و لو بالصّين وليس عيباً أن نتعلم من حكمة كونفوشيوس بهدوء فلسفته العميقة أنه مع مرور الوقت تفوز نقطة الماء على الصخر مهما كان صلباً ، وتفوز سوريّة على الظروف مهما كانت قاسية!
سيريا هوم نيوز/4/ رأي اليوم