كريم حداد
لا تأفل الإمبراطوريات فجأة، ولا تُهزم عادةً عند حدودها الخارجية، بل تبدأ في التراجع عندما تفقد القدرة على إعطاء القوة معنى سياسياً جامعاً. فالأفول، في التاريخ الإمبراطوري، ليس حدثاً بل مسار، وليس انهياراً بل تحوّل بطيئ من القدرة على التأسيس إلى الاكتفاء بالإدارة، ومن صناعة النظام إلى محاولة الحفاظ عليه.
بهذا المعنى، لا يكون السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت الإمبراطورية الأميركية ستسقط، بل ما إذا كانت قد دخلت بالفعل طور الأفول الذي يسبق السقوط أو يُعيد تشكيلها في صورة أقل طموحاً وأضيق نفوذاً.
في صعودها، تجمع الإمبراطوريات بين التفوّق المادي والسرديّة الشرعية والقدرة على الحسم. القوّة العسكرية والاقتصادية وحدها لا تصنع إمبراطورية ما لم تُرفَق برواية تبررها، وبقرار سياسي قادر على تحديد متى تُستخدم هذه القوة ومتى تُقيَّد. حين تختل هذه المعادلة، لا تختفي القوة فوراً، لكنها تتحول من أداة لبناء النظام إلى عبء ثقيل يُدار دفاعياً. هذا ما حذّر منه إدوارد غيبون حين رأى في التوسّع الروماني المفرط بداية لإنهاك الإمبراطورية، وما أعاد صياغته بول كينيدي بلغة الاقتصاد السياسي عندما ربط بين الامتداد العسكري الواسع وتآكل القاعدة الإنتاجية.
في الحالة الأميركية، لا يبدو أن المشكلة تكمن في نقص القوة، بل في فائضها: شبكة انتشار عسكري عالمية تتطلب موارد هائلة، وتُنتج التزامات متراكمة، من دون أن تقود بالضرورة إلى استقرار دائم أو إلى مكاسب استراتيجية قابلة للتحويل إلى نظام طويل الأمد.
يبدأ الأفول أيضاً حين تنفصل الحرب عن السياسة. في التصور الكلاسيكي، كانت الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، أداة مؤقتة تُستخدم لتحقيق غاية محددة ثم تُطوى.
أمّا في الإمبراطوريات المتأخرة، فغالباً ما تنقلب العلاقة: تصبح السياسة أسيرة لمنطق الحرب، ويُعاد إنتاج العنف بوصفه حالة دائمة لا وسيلة عابرة. ما يُسمّى اليوم بالحرب الدائمة ليس تعبيراً عن إرادة توسع، بل عن عجز عن الحسم. إنها إدارة للزمن لا للانتصار، وتأجيل للهزيمة لا صناعة للسلام. حين تخوض الإمبراطورية حروباً بلا نهاية محددة، وبلا تعريف واضح للنصر، فإنها تدخل منطقة رمادية تفقد فيها الحرب معناها السياسي وتتحول إلى عبء أخلاقي واستراتيجي في آن واحد.
ولا يقل خطورة عن ذلك تآكل السردية الإمبراطورية. فالإمبراطوريات لا تحكم بالقوة وحدها، بل بالقدرة على إقناع الذات والآخرين بأن هذه القوة تخدم غاية أسمى. الولايات المتحدة قدّمت نفسها، لعقود، بوصفها حاملة للنظام الليبرالي العالمي، وراعية لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وضامنة للاستقرار الدولي. غير أن هذه السردية تعرّضت في السنوات الأخيرة لتشققات عميقة، سواء بفعل التناقض بين الخطاب والممارسة، أو بفعل الانقسام الداخلي الذي جعل الدور العالمي نفسه موضع شك. حين تفقد الإمبراطورية إيمانها برسالتها، تتحول قوتها إلى قوة عارية، ويغدو العنف بديلاً من الشرعية، والتدخل بديلاً من الإقناع.
ومن علامات الأفول الحاسمة أيضاً العجز عن اتخاذ قرار سيادي نهائي.
الإمبراطوريات الصاعدة تحسم خياراتها، حتى وإن كانت مكلفة. أمّا الإمبراطوريات الآفلة، فتميل إلى البقاء في منطقة وسطى مدمّرة: لا انتصار كاملاً ولا انسحاب صريحاً، لا التزام شاملاً ولا تراجع شجاعاً. هذا التردّد لا يعكس حكمة، بل شللاً إستراتيجياً. فالإمبراطورية التي تعجز عن اختيار نهاية لحروبها، تعجز في الوقت نفسه عن تجديد مشروعها. التاريخ يُظهر أن هذا النوع من الشلل كان دائماً مقدمة لفقدان النفوذ، حتى لو استمرت مظاهر القوة قائمة.
الإمبراطوريات الصاعدة تحسم خياراتها، حتى وإن كانت مكلفة. أمّا الإمبراطوريات الآفلة، فتميل إلى البقاء في منطقة وسطى مدمّرة: لا انتصار كاملاً ولا انسحاب صريحاً، لا التزام شاملاً ولا تراجع شجاعاً. هذا التردّد لا يعكس حكمة، بل شللاً إستراتيجياً
تعيش الإمبراطورية الأميركية اليوم حالة مركّبة يصعب اختزالها في ثنائية الصعود أو السقوط. فهي ما تزال القوة الأكثر حضوراً في النظام الدولي، لكنها في الوقت نفسه تعاني من تشققات عميقة على المستويات الاقتصادية والعسكرية والداخلية والدولية، تشققات لا تعبّر عن ضعف عابر، بل عن توتر بنيوي يميّز عادة المراحل المتأخرة من الإمبراطوريات. الولايات المتحدة ليست في حالة انهيار، لكنها لم تعد في حالة اطمئنان تاريخي. إنها قوة كبرى تتحرّك بلا يقين، وتدير عالمها أكثر مما تعيد تشكيله.
اقتصادياً، ما تزال الولايات المتحدة تمتلك عناصر تفوّق استثنائية: الدولار هو العملة العالمية الأساسية، وول ستريت مركز الثقل المالي الدولي، والاقتصاد الأميركي يتمتع بقدرة عالية على الابتكار، خاصة في مجالات التكنولوجيا المتقدّمة والذكاء الاصطناعي والطاقة. غير أن هذا التفوّق يخفي هشاشات متراكمة. الدين العام بلغ مستويات غير مسبوقة تاريخياً، وأصبح تمويل الدولة يعتمد بشكل متزايد على الثقة العالمية المستمرة بالدولار. هذه الثقة ما تزال قائمة، لكنها لم تعد غير قابلة للنقاش.
في الوقت نفسه، تتسع الفجوة الاجتماعية داخل المجتمع الأميركي، ويتراجع وزن الطبقة الوسطى التي شكّلت تاريخياً العمود الفقري للاستقرار السياسي والاقتصادي. الاقتصاد الأميركي ينتج ثروة هائلة، لكنه يوزعها بشكل غير متكافئ، ما يخلق شعوراً واسعاً بالحرمان النسبي حتى داخل أغنى اقتصاد في العالم. هذا النوع من التفاوت ليس مجرد مسألة اجتماعية، بل عنصر سياسي خطير، لأنه يضعف التماسك الداخلي الذي تحتاجه الإمبراطوريات للحفاظ على دورها الخارجي.
عسكرياً، لا تزال الولايات المتحدة القوة الأولى بلا منازع من حيث الإنفاق والقدرات والتكنولوجيا والانتشار. أساطيلها وقواعدها تغطي الكوكب، وقدرتها على التدخل السريع لا تضاهيها أي دولة أخرى. غير أن المفارقة الأساسية تكمن في أن هذا التفوق لم يعد يترجم إلى نصر سياسي حاسم. التجارب الممتدة من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى الساحات الرمادية الأخرى، أظهرت أن القوة العسكرية الأميركية قادرة على إسقاط أنظمة وتعطيل خصوم، لكنها عاجزة عن بناء نظم مستقرة أو فرض تسويات طويلة الأمد. الجيش الأميركي مصمم للردع والحسم السريع، لا لإدارة مجتمعات معقدة أو إعادة تشكيل دول. ومع تكرار الحروب غير المحسومة، بدأت المؤسسة العسكرية نفسها تعاني من إنهاك معنوي وإستراتيجي، حيث تُستهلك الموارد من دون عائد سياسي متناسب، ويتحوّل التفوق العسكري إلى عبء صيانة دائم لا أداة تغيير.
على الصعيد الداخلي، تبدو الولايات المتحدة في حالة استقطاب حاد غير مسبوق منذ عقود. الانقسام السياسي لم يعد مجرد اختلاف برامج، بل تحوَّل إلى صراع هوياتي حول معنى الدولة نفسها، ودور المؤسسات، وحدود الشرعية. الثقة في النظام الانتخابي، وفي الإعلام، وفي القضاء، وفي الكونغرس، تآكلت بشكل واضح. هذا التآكل لا يعني انهيار الدولة، لكنه يعني أن القرار الإستراتيجي أصبح أكثر صعوبة، وأن الإجماع الضروري لأي مشروع إمبراطوري طويل الأمد بات شبه مستحيل. الإمبراطوريات تحتاج إلى مركز قرار قادر على الاستمرار عبر الإدارات، بينما تعاني الولايات المتحدة اليوم من دورات سياسية قصيرة، حادّة، ومتقلبة، تجعل السياسة الخارجية نفسها رهينة الحسابات الداخلية.
دولياً، تواجه الإمبراطورية الأميركية بيئة مختلفة جذرياً عن تلك التي أعقبت الحرب الباردة. لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض قواعد النظام الدولي من طرف واحد. الصين تمثّل تحدّياً اقتصادياً وتكنولوجياً طويل الأمد، لا يقوم على المواجهة العسكرية المباشرة بل على إعادة تشكيل موازين القوة العالمية. روسيا، رغم محدودية اقتصادها، أثبتت قدرتها على تعطيل النظام الأمني الأوروبي وكشف حدود الردع الغربي. في الوقت نفسه، تتجه دول كثيرة في الجنوب العالمي إلى سياسات أكثر استقلالية، لا تنحاز بالكامل إلى واشنطن ولا إلى خصومها، بل تسعى إلى تعظيم هامش المناورة. هذا لا يعني نهاية النفوذ الأميركي، لكنه يعني نهاية لحظة الهيمنة الأحادية التي سمحت لواشنطن بأن تكون الحكم الأخير في الأزمات الدولية.
الأهم من كل ذلك، أنّ الولايات المتحدة تواجه أزمة معنى في دورها العالمي. فهي ما تزال تتدخّل، وتعاقب، وتضغط، لكنها أقل قدرة على الإقناع وأضعف في إنتاج سردية جامعة. الخطاب القيمي الذي كان يمنح السياسة الخارجية الأميركية بُعداً أخلاقياً فقد الكثير من مصداقيته، سواء بسبب ازدواجية المعايير أو بسبب الإرهاق الداخلي من «أعباء العالم». الإمبراطورية هنا لا تفقد أدواتها، بل تفقد اليقين بجدوى استخدامها. وهذا، تاريخياً، هو المؤشر الأخطر: حين تستمر القوة، لكن يتراجع الإيمان بمشروعها.
الحالة الراهنة للإمبراطورية الأميركية تشبه مرحلة ما بعد الذروة في تاريخ الإمبراطوريات. القوة ما تزال هائلة، لكن اتجاهها غير واضح. النفوذ قائم، لكنه أكثر كلفة وأقل مردوداً. الداخل ما يزال متماسكاً بما يكفي لمنع الانهيار، لكنه منقسم بما يكفي لتعطيل الطموح. في مثل هذه اللحظات، لا يُحسم مصير الإمبراطوريات بضربة خارجية، بل بقدرتها على إعادة تعريف ذاتها. إن استطاعت الولايات المتحدة ترميم تماسكها الداخلي، وإعادة وصل القوة بالشرعية، والسياسة بالحسم، فقد تنتقل إلى شكل جديد من النفوذ أقل اتساعاً وأكثر استدامة. وإن عجزت عن ذلك، فإنّ ما نراه اليوم لن يكون أزمة عابرة، بل بداية أفول طويل، لا درامي، لكنه عميق.
هل يعني كل ذلك أن الإمبراطورية الأميركية تأفل الآن؟ الجواب الأدق هو أنها لم تعد في ذروة الصعود، لكنها لم تبلغ بعد لحظة الانهيار. ما نراه اليوم هو مرحلة انتقالية، تمتلك فيها الولايات المتحدة أدوات القوة، لكنها تعاني أزمة معنى، وتملك القدرة على التدخل، لكنها تفتقر إلى وضوح الغاية. هذه المرحلة تشبه، في تاريخ الإمبراطوريات، لحظة ما بعد الذروة، حين يصبح الحفاظ على المكانة أصعب من بنائها، وحين يتحوّل الزمن من حليف إلى خصم.
الأفول، في هذا السياق، لا يعني بالضرورة سقوطاً درامياً، بل إعادة تموضع قسرية. بريطانيا لم تسقط حين أفلت شمسها الإمبراطورية، لكنها لم تعد إمبراطورية. والاتحاد السوفياتي عاش سنوات طويلة من الجمود قبل انهياره. ما سيحدّد مصير الإمبراطورية الأميركية ليس حجم قوتها العسكرية، بل قدرتها على استعادة الصلة بين القوة والمعنى، وبين الحرب والسياسة، وبين النفوذ والشرعية. فإن عجزت عن ذلك، فإنّ الأفول لن يكون نبوءة مستقبلية، بل وصفاً دقيقاً للحظة الراهنة.
* كاتب
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
