عودةٌ بالزمن إلى الوراء 77 عاماً. آنذاك، التقى الملك عبد العزيز بن سعود، الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ووضَعا معاً اللَبِنة الأولى للعلاقات السعودية – الأميركية. ربّما لم يكن الملك ليتخيّل، في أحلامه الجامحة آنذاك، أن ابنه وحفيده سيسعيان جاهدَين إلى بناء علاقات أوثق مع قوّة عظمى أخرى، لكنه بدا واضحاً في أعقاب رحلة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى المملكة، أن وليّ العهد، محمد بن سلمان، يسعى، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى إقامة «توازن محفوف بالمخاطر» بين بكين وواشنطن، يبدو أقرب إلى المجازفة، كونه قد يدفع بإحدى القوّتَين العظميَين، والمقصود هنا الولايات المتحدة، إلى العمل على إزاحة ابن سلمان من طريقها.
يُعدّ «توازن القوّة» استراتيجية قديمة؛ إذ لجأت «دول المدن» اليونانية القديمة، منذ آلاف السنين، إلى تشكيل تحالفات لحماية نفسها ضدّ «دول المدن» الأخرى. وفي شكل آخر من أشكال هذا التوازن، حاول بعض الدول الصغيرة إقامة علاقات مع دول أكبر، لتدرأ عن نفسها خطر عواقب المواجهة بين الأقطاب الأكثر قوّة. وفي القرنَيْن العشرين والحادي والعشرين، جذب ذلك الشكل انتباه عدد من الجهات الفاعلة الصغرى في النظام الدولي؛ إذ عندما تبدأ القوّة المهيمِنة الوحيدة في العالم في التراجع، ويتحوّل النظام الدولي مِن هيكل أحادي القطب إلى نظام ثنائي أو متعدّد الأقطاب، فإن الأطراف الإقليمية ستسعى، بدورها، إلى تقاسُم مصالحها بين القطبَين المنحدر والصاعد، بما يتيح لها أن تصبح خارج الرادار في حال حدوث صراع محتمل بينهما، كما ومنْع وقوع الحروب بشكل عام ربّما. ويتجسّد تقاسمُ المصالح هذا، في أشكال متعدّدة مِن مِثل: التعاون العسكري، والاقتصادي، والأمني، والاستخباري، بالإضافة إلى إنشاء مؤسّسات ومنظّمات إقليمية وخارجية.
ad
لكن، وكما يقول المثل الإنكليزي: «ليست كل الورود فوّاحة»؛ فقد تنطوي هذه السياسة على مخاطر جسيمة للقوى الإقليمية، إذ يُعدّ كلّ تعاون مع قوّة عظمى إشارةَ إنذار إلى مُنافستها. ووفقاً لنظرية التنافس نفسها، إذا تعرّضت مصالح إحدى القوى (بخاصّة الأكثر هيمنة) لخطر الوصول إلى «نقطة الانهيار»، فإن القوّة المتضرّرة ستتبنّى سياسة تغيير النظام، وتحاول تثبيت حكومتها «العميلة» في البلد الأصغر. والواقع أن ثمّة العديد من الأمثلة على تجاوز تلك العتبة في تاريخ العلاقات الدولية. على سبيل المثال، سعى رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، إلى توثيق علاقات بلاده مع روسيا، وكان يعتزم تعليق القواعد الأميركية فيها. وفي حزيران 2021، قال وزير الخارجية الباكستاني السابق، شاه محمود قريشي، إنه «في عهد خان، لم تكن الحكومة مستعدّة لتزويد الولايات المتحدة بقواعد عسكرية». وبعد فترة وجيزة – وتحت التأثير والضغط المباشر من الولايات المتحدة -، صوّت المشرّعون الباكستانيون على عزْل خان من منصبه عبر التصويت بحجب الثقة.
ad
ارتأت المملكة وجوب تحقيق توازنٍ بين الولايات المتحدة والصين
وتُعدّ المملكة السعودية قوّة إقليمية بإجمالي ناتج محلّي يبلغ 833 مليار دولار، فضلاً عن كوْنها أحد أكبر منتِجي النفط في العالم، وتربطها بالولايات المتحدة علاقة استراتيجية عمرها 70 عاماً. وعلى مرّ السنوات، تمتّع السعوديون بدعم أميركا، وأسّسوا جيشاً حديثاً ومجهّزاً بأحدث المعدّات. ونظراً إلى نموّ الصين، وحالِ فوضى الجغرافيا السياسية الراهنة في العالم وفي الشرق الأوسط، بدا ابن سلمان وقد خلُص إلى أن الأحادية لا يمكن أن تخدم مصالح بلاده تماماً، وارتأت المملكة وجوب تحقيق توازنٍ بين الولايات المتحدة والصين. وبناءً عليه، وقّعت الرياض، أخيراً، مع بكين عقوداً ضخمة بلغت قيمتها 50 مليار دولار، وتشمل 34 اتفاق استثمار في مجالات الطاقة الخضراء والأنظمة الكهروضوئية وتكنولوجيا المعلومات والخدمات السحابية والنقل واللّوجستيّات والصناعات الطبّية والإسكان والبنية التحتية. وقُبيل زيارة شي إلى الرياض، قال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية: «تُعدّ هذه القمّة أهمّ حدث ديبلوماسي، والأعلى في المستوى، بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس الجمهورية الشعبية». وقد كانت الصين دائماً أكبر شريك تجاري للمملكة في الشرق الأوسط، إلّا أن أهمّية العقود المبرمة في القمّة الأخيرة تكمن في إمكانية تغييرها قواعد اللعبة في المنطقة؛ إذ إن من شأنها أن تُطوّر العتاد العسكري السعودي بشكل كبير، وتنقل إلى المملكة تكنولوجيا المعلومات المتطوّرة، ومشاريع البنى التحتية، وتطوير قطاع الاتصالات.
ad
من جهتها، لم ترحّب الولايات المتحدة بالاتفاق الصيني – السعودي إطلاقاً. وقال مُنسّق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البيت الأبيض، بريت ماكغورك، على طريقته، مهدّداً السعوديين: «هناك شراكات معيّنة مع الصين من شأنها أنْ تخلق سقفاً لِما يمكننا فعله لحلفائنا». من هنا، يمكن علاقات ابن سلمان المتنامية مع بكين أنْ تلحِق الضرر بمصالح واشنطن في المنطقة، وإنْ اعتقد الأميركيون أنهم بلغوا بذلك «نقطة الانهيار»، فإن خيار الولايات المتحدة الأكيد: إطاحة وليّ العهد. هكذا دخلت المملكة مفترق طرق صعباً: فمن جهة، يمكنها تعزيز موقعها في الشرق الأوسط من خلال علاقاتها المتنامية مع الصين كقوّة عظمى صاعدة؛ ومن جهة أخرى، لا ترحّب الولايات المتحدة – بصفتها حليفة المملكة القديمة، والقوّة المهيمنة السابقة في العالم – بالتعاون السعودي – الصيني، وقد تُكرّر السيناريو الخاص بها، الذي استخدمتْه في باكستان، وتتّخذ قرار عزْل ابن سلمان.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية