طلبت الولايات المتحدة من البنك الدولي التراجع عن تركيزه على قضية المناخ والعودة إلى مهمته الأساسية: مكافحة الفقر. ودعا وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت البنك إلى إلغاء نسبة 45% من تمويله المخصّص للمشاريع المناخية، وتوجيهها نحو “زيادة الوصول إلى الطاقة بأسعار معقولة وموثوقة، والحد من الفقر، وتعزيز النمو”. وعلى المزيد من الأطراف المعنية بالمسألة المناخية الانضمام إلى هذا النداء المنطقي لإعادة التركيز على جوهر مهمة البنك الأساسية.
تاريخياً، حين أُنشئ البنك الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، كان هدفه إعادة إعمار أوروبا، إلا أنه تحوّل لاحقاً إلى مؤسسة تُعنى بالحد من تفشي الفقر في العالم. إلا أن البنك غيّر مساره بعد اتفاقية باريس للمناخ في 2015، ومثله في ذلك مثل الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى، فخصّص المليارات من الدولارات لدعم المشاريع المناخية، وتعهد بتصدّر سلّم التمويل الأخضر. وفي العام الماضي وحده، ضخّ البنك نحو 42,6 مليار دولار في مشاريع مناخية، وهذه أموال يرى منتقدوه أن الأجدى كان توجيهها لتلبية الاحتياجات الأشد إلحاحاً في العالم.
تُظهر البحوث مراراً أن الاستثمارات الأساسية في التنمية، مثل تحسين صحة الأمهات وتطوير التعلم الإلكتروني وزيادة الإنتاج الزراعي، تُحقق نتائج أسرع وأكبر كثيراً من الإنفاق على قضايا المناخ. فإنّ دعم الدول الفقيرة لخفض انبعاثاتها لا يقدّم إلا فوائد محدودة جداً على صعيد التنمية، أو حتى في مؤشرات المناخ. وصحيح أن تدابير التكيّف، كإنشاء الدفاعات ضد الفيضانات، تُعد أكثر فاعلية نسبياً، لكنها تبقى أقل تأثيراً مقارنة باستراتيجيات التنمية التي أثبتت نجاحها.
من جهته، يدافع رئيس البنك الدولي أجاي بانغا بقوة عن التوجه المناخي، مؤكداً أن الفقر والمناخ مسألتان تعالجان معاً. غير أنّ هذا الطرح، بحسب منتقدين، لا يصمد أمام المنطق. فمحاربة الفقر من خلال التغذية والرعاية الصحية والتعليم يمكن أن تُحدث فارقاً سريعاً في حياة مئات الملايين من الناس، وبتكلفة منخفضة نسبياً. أما ربط التنمية بالإجراءات المناخية فلن يحقق نتائج ملموسة بحلول 2030، وربما يبقى أثره هامشياً حتى نهاية القرن.
والأخطر، وفق الخبراء، يمكن في أن السياسات المناخية تنطوي على تكاليف باهظة تصل إلى تريليونات الدولارات، وغالباً ما تأتي على حساب الفقراء، إذ تؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والأسمدة، وهذا يزيد الأعباء على الدول النامية بدلاً من أن يخففها.
الدول النامية بحاجة اليوم إلى طاقة رخيصة وموثوقة لتتمكّن من التصنيع، وخلق فرص العمل، وتحقيق الازدهار، تماماً كما فعلت الدول الغنية قبل قرن
يشير وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إلى أن الدول النامية بحاجة اليوم إلى طاقة رخيصة وموثوقة لتتمكّن من التصنيع، وخلق فرص العمل، وتحقيق الازدهار، تماماً كما فعلت الدول الغنية قبل قرن، وكما فعلت الصين خلال العقود الأخيرة. فمعظم دول أفريقيا تعاني فقراً حاداً وتفتقر إلى مصادر طاقة متنوّعة، إذ لا تعتمد سوى على الخشب والطاقة المائية. ويُظهر الواقع أن المواطن الأفريقي الفقير يستهلك من الوقود الأحفوري سنوياً ما يستهلكه المواطن الأميركي في أقل من تسعة أيام.
في هذا الإطار، يسعى البنك الدولي إلى تزويد 300 مليون أفريقي إضافي بالكهرباء بحلول 2030 ضمن مبادرته “مهمة 300″، وهذا هدف نبيل، لكنه مهدّد بالفشل بسبب التركيز المفرط على الطاقة المتجددة. فشريك البنك في هذه المبادرة، أي مؤسسة روكفلر، يروّج لفكرة أن الطاقة المتجددة هي “الطريق الأسرع والأفعل من حيث الكلفة نحو الازدهار”، وهذا وهم بعيد عن الواقع بحسب الخبراء.
ربما تكون الطاقة الشمسية والرياح أرخص من الوقود الأحفوري في الأوقات التي تشرق فيها الشمس وتهب الرياح، لكنها تصبح باهظة التكلفة في غيابهما، إذ تتطلّب احتياطات ضخمة لضمان استمرارية الإمداد، ما يرفع الأسعار ويجعل المجتمعات التي تعتمد عليها تواجه فواتير كهرباء مرتفعة. ولهذا السبب، وعلى الرغم من الخطاب “الأخضر” الطاغي، لا تزال الدول الغنية تعتمد على الوقود الأحفوري لتأمين أكثر من ثلاثة أرباع احتياجاتها من الطاقة.
أكذوبة الطاقة الخضراء الرخيصة
تصحّ فكرة انخفاض تكلفة الطاقة مع رفع منسوب استخدام المصادر الخضراء فقط إن كنا نستخدم التيار الكهربائي حصرياً حين تشرق الشمس أو حين تهب الرياح.
اقرأ النص كاملاً
تُظهر استطلاعات رأي أجراها البنك الدولي أن سكان الدول الفقيرة لا يعتبرون قضية المناخ أولوية في حياتهم اليومية. فبينما يتحدّث بعض القادة الأفارقة بلباقة عن القضايا البيئية في اجتماعاتهم مع مؤسسة روكفلر أو البنك الدولي، فإن الواقع يُظهر خلاف ذلك تماماً. ففي العام الماضي، أضافت القارة الأفريقية خمسة كيلوواط/ساعة فقط من الكهرباء للفرد الواحد من مصادر الطاقة الشمسية والرياح، في حين أضافت ما يقارب خمسة أضعاف هذا الرقم من الوقود الأحفوري، كونه أرخص ثمناً وأكثر موثوقية. وعلى صعيد مجمل أنواع الطاقة، ارتفع استهلاك أفريقيا من الطاقة الشمسية والرياح بنسبة طفيفة، مقابل زيادة استهلاك الوقود الأحفوري بمعدل 22 ضعفاً.
صحيح أن تغيّر المناخ يتطلّب تحرّكاً عالمياً، لكن ليس على حساب الفقراء. فبدلاً من فرض سياسات مكلفة على الدول النامية، يُفترض أن تستثمر الحكومات الغنية في البحث والتطوير لإنتاج تقنيات خضراء متقدّمة وبتكلفة معقولة، يمكن أن يعتمدها الجميع، أي الأغنياء والفقراء على حدّ سواء. بهذه الطريقة وحدها، يمكن العالم مواجهة أزمة المناخ من دون التضحية بالفئات الأضعف.
ختاماً، على المزيد من الدول أن تنضم إلى الجهود الهادفة إلى إعادة تركيز البنك الدولي على مهمته الأساسية: مكافحة الفقر. فـتحويل أموال التنمية إلى مبادرات مناخية لا يمثل انحرافاً في الأولويات، إنما استهانة بمعاناة الملايين ممن يكافحون من أجل البقاء.
* بيورن لومبورغ هو رئيس مؤسسة “تفاهم كوبنهاغن” وزميل زائر في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، ومؤلف كتابي “إنذار كاذب” و”الأفضل أولاً”.
أخبار سوريا الوطن ١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
