| عبد الخالق فاروق
تتحرك الهند بحذر شديد وسط حقل من الألغام السياسية والاقتصادية، وتحدد موقفَها تجاه المشهد الراهن في أوكرانيا عدةُ اعتبارات.
تمثّل الهند، من دون شكّ، ثقلاً في النظام الدولي الراهن، حضارياً واقتصاديا وسياسياً، وفي منظومة العلاقات الدولية المستهدَف تعديلها وتحقيقها في المستقبل المنظور، ومن هنا، يجب التوقف ملياً لتحليل الموقف الهندي من الحرب ذات الأبعاد العالمية التي تجري ضد روسيا في الوقت الراهن، وتتخذ من أوكرانيا ونظامها الحاكم مجرد مخلب قط، وفي ضوء اصطفافات دولية سوف تتشكل منها ملامح النظام الدولي القادم.
وتتحرك الهند بحذر شديد وسط حقل من الألغام السياسية والاقتصادية في المشهد الراهن نتيجة عدة اعتبارات، أو محددات وقيود، لعل من أهمها:
1- الحرص على استمرار مستوى النمو الاقتصادي الراهن الذي وصلت إليه الهند.
2- طبيعة علاقاتها الشائكة والملتبسة بين طرفي الأزمة الأوكرانية الراهنة، ونقصد بهما روسيا من جانب، والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وسائر التحالف الغربي من جانب آخر.
3- طبيعة مشكلاتها المزمنة مع جارتها اللدودة – باكستان – والمخاطر والتهديدات المحيطة بها من ولاية كشمير.
4- الموقف من الصين.
وحتى تكتمل الصورة لدينا، ينبغي لنا أن نتأمل التطور الاقتصادي الذي طرأ على الهند طوال الأعوام الأربعين الأخيرة، وأصبح يشكّل جانباً مهماً من القدرة من ناحية، والقيد على القرار السياسي من ناحية أخرى.
أولاً: التطور الاقتصادي الهندي خلال العقود الأربعة الماضية
برزت الهند كخامس أقوى اقتصاد في العالم، متجاوزة بريطانيا وفرنسا وروسيا في عام 2019، وذلك بحسب تقرير لمركز المسح السكاني للعالم World Population Review البحثي، والذي يتخذ من العاصمة البريطانية لندن مركزا له. وأشار التقرير، الذي نشره موقع فايننشال إكسبرس FINANICAL EXPRESS، إلى أن حجم الاقتصاد الهندي بلغ 2.94 تريليون دولار، بينما يبلغ الاقتصاد البريطاني نحو 2.83 تريليون دولار، والاقتصاد الفرنسي في حدود 2.71 تريليون دولار. ووفقاً لبيانات من البنك الدولي، فإن اقتصاد الهند كان تخطى اقتصاد فرنسا عام 2017 ليصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم (1).
يكفي أن نعرف الوضع الاقتصادي للهند في عام 2004، بحيث كانت الهند في قمة نشوتها الاقتصادية، فبينما كانت الدول الشرق آسيوية تعاني بعد خروجها من أزمة عام 1997، كانت الهند تملك أعلى مستوى من احتياطيات النقد الأجنبية، مقدَّراً بنحو 130 مليار دولار، وهو أعلى مستوى لها منذ استقلالها، وكان الاقتصاديون يتوقعون أن تصبح الهند ثالث أكبر اقتصاد عالمي بحلول عام 2025 إذا ما اتبعت السياسات الملائمة.
وحين ضربت الأزمة المالية العالم عامي 2007 و2008، تضررت اقتصادات الدول المتقدمة، بينما استفادت منها الهند، بحيث نما الاقتصاد الهندي بين عامي 2007 و2012 بنسبة 43 %، وهو معدل مرتفع جداً ومقارب نسبياً للصين التي نما اقتصادها بنسبة 56 % في الفترة نفسها (بلغ حجم النمو للدول المتقدمة آنذاك في الفترة ذاتها 2 % فقط). وحينها أعلنت الحكومة الهندية خطتها الخمسية (2012 –2017) متوقعة أن يكون النمو السنوي للاقتصاد الهندي بين 9% و10 %، لكن الاقتصاد الهندي لم يتعدَّ حاجز 9 % كما تُوقع له، وكان أقصاه في عام 2016 حينما وصل إلى 8.3 % لينحدر بعد ذلك إلى 4.2 % في عام 2019!
هذا الرقم، على الرغم من ارتفاعه مقارنة بالدول المتقدمة، فإنه رقم منخفض جداً لدولة مثل الهند، تأمل المحافظة على زخمها الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي لمواطنيها. وبعد أن كانت الهند إحدى الدول المكونة لمجموعة “البريكس” BRICS، وهي دول البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، تحوّلت لتصبح إحدى دول الاقتصادات الناشئة الضعيفة مع إندونيسيا وتايلاند. ووصل حجم الدين العام للحكومة الهندية إلى نحو 70 % من ناتجها القومي، ولم تستطع الهند تجاوز كثير من المشكلات التي تواجهها، مثل ضعف البنى التحتية (التي حدّت كثيراً استثمار الشركات الأجنبية)، وقلة التمويل الحكومي.
أما القطاع الخاص الهندي فله معاناته الخاصة، وهو ضعف التمكين المالي. فأغلبية الديون الحكومية بالعملة المحلية، لكن استدانة الحكومة بالعملة المحلية أثّرت في القطاع الخاص، نظراً إلى أن أغلبية البنوك الهندية تملكها الحكومة، فهي تفضل إقراض الشركات الحكومية على غيرها. لذلك، فمزاحمة الحكومة للقطاع الخاص في الاقتراض جعل القطاع الخاص الهندي مجبراً على الاستدانة بالعملات الأجنبية، وهو ما وضعه في خطر مستمر من تقلبات العملات.
والمتأمل للوضع في الهند اليوم يجدها بعيدة عن الصين التي يبلغ ناتجها القومي 5 أضعاف الهند.
لكن، مع ذلك، فالهند لديها من المقومات الحالية ما لا تملكه الصين، فمعدل أعمار العاملين في الصين 38 عاماً، بينما ينخفض هذا الرقم في الهند إلى 28 سنة. كما أن القوى العاملة في الهند تزيد بنحو 10 ملايين عامل سنوياً، بينما تنقص في الصين بسبب سياسة الطفل الواحد. ولدى الهند ما لا تملكه الصين، وهو دعم الغرب لها، فالغرب يرى فيها مثالاً على الديمقراطية الذي يجب أن ينجح في الشرق(2).
وكان اقتصاد الهند انكمش بـنسبة 7.3% خلال العام المالي 2020ــ2021، بسبب عمليات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا، وما ترتب عليها من تباطؤ في النشاط الاقتصادي وفقدان ملايين الوظائف.
وجاءت توقعات الحكومة الهندية، في مسح اقتصادي نشرته في مطلع شهر شباط/فبراير من عام 2021، متفائلة، بحيث قدّرت أن يسجل اقتصاد البلاد نمواً بين 8 % و8.5% في العام المالي 2022ــ2023. وقدّمت وزيرة المالية، نيرمالا سيترامان، التقرير إلى البرلمان متضمناً نظرة متفائلة بشأن المؤشرات الاقتصادية الرئيسة، وبنت عليها أساس الموازنة السنوية للبلاد. كما تضمّن توقعات بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي بـ 9.2% للعام المالي 2021ــ2022، التي تبدأ في الهند من شهر نيسان/أبريل حتى آذار/مارس من العام التالي.
هكذا كانت النظرة التفاؤلية للمسؤولين في الدوائر الحكومية في الهند، وكذا لدوائر البحث والتحليل الاقتصادي، قبل أن تنفجر الأزمة الأوكرانية والحرب الروسية – الأطلسية نهاية شهر شباط/فبراير 2022 حتى اليوم.
الجدير بالذكر أن الهند تأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة في إجمالي الإصابات المسجلة بالفيروس المستجد، كما تشير البيانات الرسمية إلى أن عدد الإصابات تجاوز 41 مليوناً، بينما بلغ إجمالي عدد الوفيات بين 500 ألف شخص و750 ألفاً (3).
حتى نتعرّف إلى الوضع الاستراتيجي للهند، وطبيعة القيود المفروضة على صانع القرار الهندي تجاه الأزمة العالمية الراهنة، علينا أن نتعرف إلى ركائز النمو الاقتصادي الهندي وروافعه طوال العقود الأربعة الأخيرة، ودور الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي في تحقيق هذا النمو.
ثانياً: العلاقات الهندية – الأميركية
يحتاج الأمر منا إلى إلقاء نبذة تاريخية سريعة بشأن تطور العلاقات الهندية الأميركية خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وتحديداً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991. فالحقيقة أن أبرز قادة حركة تحرّر الهند ارتبطوا في البداية بعلاقات طيبة بالولايات المتحدة الأميركية، استمرت إلى ما بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1947. وبسبب تحالف الولايات المتحدة مع باكستان وتأييدها لها في عام 1954، ضمن حلف بغداد، ردت الهند بتطوير علاقات استراتيجية وعسكرية مع الاتحاد السوفياتي لمجابهة العلاقات الباكستانية الأميركية.
ومنذ عام 1955، شاركت الهند في تأسيس حركة عدم الانحياز إلى جانب مصر ويوغوسلافيا وإندونيسيا لتجنب الانجرار إلى لعبة القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ضمن حقبة الحرب الباردة. وأثّر دعم إدارة الرئيس نيكسون لباكستان، خلال الحرب الهندية الباكستانية في عام 1971، في العلاقات الهندية -الأميركية، فازدادت تدهوراً حتى عام 1991 حينما تفكك الاتحاد السوفياتي. بعدها، كيّفت السياسة الخارجية الهندية نفسها مع العالم الأحادي القطب، ونمّت صلات أوثق بالولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً مع صعود التيار اليميني في الخريطة السياسية الداخلية في الهند، وتولي قيادات حزب “باراتيا جاناتا” الحكم، وتراجع دور حزب المؤتمر ذي النزعة الاشتراكية، والذي قاد الهند منذ الاستقلال حتى مطلع التسعينيات.
فزاد التبادل التجاري والاستثمار المتبادل بين الهند وهذه الدول الغربية، والتعاون في قضايا الأمن الدولي. وفي عام 2016، وقّعت الولايات المتحدة والهند مذكرة اتفاق التبادل اللوجيستي، وأُعلن أن الهند شريك دفاعي رئيس للولايات المتحدة الأميركية.
وعلى مدى العقدين الأخيرين، أصبحت الولايات المتحدة الشريكة التجارية الأولى للهند، وتوسع مجال التبادل في السلع والخدمات من 20.7 مليار دولار في عام 2001، ليصل إلى 126.0 مليار دولار أميركي في عام 2017 (منها صادرات الهند إلى الولايات المتحدة بقيمة 76,7 مليار دولار، في مقابل واردات الهند من الولايات المتحدة بقيمة بلغت 49.4 مليار دولار). وفي عام 2019، قفز حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى ما يقارب 147 مليار دولار.
كما بلغ إجمالي الاستثمارات الأميركية التراكمية المباشرة في الهند عام 2019 نحو 46 مليار دولار، وأصبحت الشركات الأميركية أكبر المستثمرين في الهند. ويساهم هذا الاستثمار في خلق فرص العمل، وزيادة المستهلكين، ونشر التكنولوجيا، وتحسين الأوضاع الاقتصادية للهنود.
ومنذ عام 2017، أصبحت الولايات المتحدة مصدراً مهماً للطاقة في الهند، إذ ارتفعت صادرات النفط الخام الأميركي إلى الهند من صفر في عام 2016، إلى 93 مليون برميل في عام 2019، ونمت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية أكثرَ من خمسة أضعاف من عام 2016 إلى عام 2019.
والنتيجة هي زيادة فرص العمل في القطاع الرسمي في الهند، وتوفير الفرص للتبادل بين البلدين، ثقافياً وتعليمياً، وتحفيز النمو في القطاعات الهندية، مثل قطاع التكنولوجيا.
واستثمرت الشركتان الأميركيتان، وولمارت (WalMart) وأمازون (Amazon)، أكثر من 23.7 مليار دولار في التجارة الإلكترونية في الهند، لدعم أصحاب الشركات والأعمال الهندية. ومن خلال شركة أمازون، تجاوزت معاملات التجارة الإلكترونية الهندية مؤخراً عتبة ملياري دولار، كما دخلت شركات الاتصالات الأميركية في شراكة مع شركات هندية لتوسيع الاتصالات اللاسلكية في المنطقة، ومنها أكبر ثلاث شركات اتصالات في الهند (إيرتيل Airtel، جيو Jio، وفودافون Vodafone ) في شراكة مع الشركات الأميركية ألتيوستار (Altiostar)، سيسكو (Cisco)، مافينير (Mavenir)، لإنشاء شبكة الوصول إلى اللاسلكي الافتراضية المفتوحة (Open vRAN) وتوزيعها عبر الهند. وستوفر هذه الشبكة بنية اتصالات وإنترنت من الجيل الخامس أسرع وأكثر فاعلية (5).
منذ عام 2017، والولايات المتحدة ترعى ثلاثة معارض تجارية تابعة لمبادرة “الطريق إلى الازدهار” مع الحكومتين الهندية والأفغانية USAID) ) (6).
ثالثاً: العلاقات الهندية بدول الاتحاد الأوروبي
وكانت الهند طوّرت العلاقات بدول الاتحاد الأوروبي منذ عام 1993، وصدر البيان السياسي المشترك ذلك العام، ووقعت اتفاقية للتعاون المشترك عام 1994، وهما يُعَدّان بمثابة الاتفاقيات التأسيسية للشراكة الثنائية. وأصبحت الهند والاتحاد الأوروبي “شريكين استراتيجيين” بداية من عام 2004. وقُبِلت خطة عمل مشتركة في عام 2005، وجري تحديثها في عام 2008.
لقد نمت التجارة بين الهند ودول الاتحاد الأوروبي من 46.8 مليار يورو عام 2006 (منها صادرات الهند إلى دول الاتحاد الأوروبي بقيمة 22.6 مليار يورو في مقابل صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الهند بقيمة 24.2 مليار يورو)، إلى 91.5 مليار يورو عام 2018 (منها صادرات هندية بقيمة 45.8 مليار يورو، في مقابل واردات من دول الاتحاد الأوروبي بقيمة 45.7 مليار يورو)، كما تضاعفت التجارة في الخدمات ثلاث مرات بين عامي 2005 و2016 لتصل إلى 28.9 مليار يورو.
وفي العام المالي 2018ــ2019 بلغت التجارة الثنائية بين دول الاتحاد الأوروبي والهند (باستثناء تجارة الخدمات) نحو 104.3 مليارات دولار أميركي. وإذا أضفنا تجارة الخدمات فإن الرقم يرتفع ليصل إلى 125 مليار دولار أميركي. وبهذا أصبح الاتحاد الأوروبي ثاني أهم شريك تجاري للهند.
وتُعَدّ الهند بين الدول القليلة في العالم التي لديها فائض في تجارة الخدمات مع دول الاتحاد الأوروبي. وبلغت الأسهم الاستثمارية من أوروبا إلى الهند 51.2 مليار يورو في عام 2016. وتشكّل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة الجزء الأكبر من التجارة بين الاتحاد الأوروبي والهند. ومن بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت ألمانيا أكبر مستورد للبضائع من الهند، وأكبر مصدّر إليها (7).
أمّا بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي عام 2020، فتُعَدّ واحدة من أكبر المستثمرين من مجموعة العشرين في الهند، بينما الهند هي ثالث أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في بريطانيا. وتمتلك الهند أكثر من 800 شركة هندية لها مقارّ في بريطانيا، وكان حجم التبادل التجاري بين الهند وبريطانيا بلغ نحو 21 مليار دولار عام 2015 (8).
وقُدِّر التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبى وكندا مع الهند عام 2020، بنحو 155.0 مليار دولار، وإذا أضفنا إليهما التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، والمقدَّر بنحو 147 مليار دولار، ومع بريطانيا المقدَّر بنحو 25 مليار دولار، فيكون مجموع التبادل التجاري بين هذه الدول والهند يتراوح بين 325 و350 مليار دولار عشية أزمة جائحة كورونا.
وهذا يشكّل قيداً شديد الضيق على القرار السياسي الهندي، وربما هذا يفسر الموقف شبه المراوغ الذي أتخذته الهند تجاه الأزمة الأوكرانية، على صعيد الامتناع عن التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، بل الأرجح أن الهند سوف تحاول اقتناص الفرص من خلال الحصول على النفط الروسي بأرخص الأسعار، وكذلك سائر عناصر التجارة الثنائية مع روسيا، من دون أن تحاول الاصطدام بالعقوبات أو الحظر الغربي ضد روسيا، وهي أشبه بمن يسير على حبال سيرك مشدود.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين