تقوم مدينة طرطوس القديمة فوق مائدة صخرية منبسطة ممتدة على مسافة تبلغ 300م تنتهي هذه المائدة في الجهة الغربية عند الشاطئ مباشرة, ذكرها وليم الصوري في وثائقه القديمة إذ قال : ” مدينة جميلة ونبيلة بمظهرها تدعى أنتارادوس, سميت كذلك لأنها تقع مقابل أرادوس (أرواد) ”
إن طرطوس مدينةٌ باسمها إلى جزيرة أرواد المقابلة, فعندما ازدهرت الجزيرة خصوصاً في العصر الفينيقي الهلنستي بسط الأرواديون سيطرتهم على الشاطئ المقابل ليشكلوا عدة أقاليم على شكل هيئة فدرالية فينيقية امتدت من سيميريا جنوباً (يعتقد أنها تل كزل اليوم) حتى جبلة شمالاً إلى منحدرات العاصي ومن ثم إلى مسييه (مصياف) في الشرق… لم تكن طرطوس التي دعيت آنذاك ب أنتارادوس (التسمية يونانية تعني المقابلة لأرواد) إلا قاعدة وحصناً بنتها الجزيرة على امتداد الشاطئ لتهاجم منها مدن الداخل ولتكون لها مركز تجاري واقتصادي ….
زار الاسكندر المقدوني أنتارادوس (أقام فترة في عمريت الضاحية الفخمة) وصفها وقال: ” مدينة (حقيقية) مجهزة تماماً بكل ما يتعلق بالتنمية المدنية وذات نشاط تجاري هام “.
بينما كانت أنتارادوس تتطور وتتفوق على أرواد ازدهاراً وعمراناً (ذلك في العهد الروماني بحسب بطليموس والاسكندر ) ,تقهقرت الجزيرة في القرن الثاني الميلادي ..وأخيراً تفوقت أنتارادوس على أرادوس وبدأت أرادوس تسمى “جزيرة أنتارادوس” وقد انعكس الاسمان الأصليان وفي القرن السادس لم تعد أرادوس (أرواد) سوى مكان رمزي..
أنتارادوس (طرطوس) والعذراء مريم :
جاءت المسيحية مبكرة إلى المنطقة ,فقد نشأ في أنتارادوس واحدة من أول المجتمعات المسيحية, أنشأ فيها القديس بطرس (أثناء طوافه في أرجاء فينيقيا مبشرا بالدين الجديد) واحدة من أقدم الكنائس التي كرست للعذراء مريم و أول مذبح أقيم لها (متحف طرطوس حالياً),كما أنه وضع فيها أيقونة ماري(1) المشهورة والتي تعزى إلى القديس لوقا…
يروي لنا وليام الصوري مما جمعه من وثائق مابين الأعوام 1169-1183 م إذ يقول:” واليوم ما زالت تجتذب هذه الكنيسة شعوب العالم ,ويؤكد بعض الشهود ,أن السماء و بواسطة مريم العذراء, تحقق معجزات للمتضرعين الذين يؤمونها طالبين رحمتها”
أما في عام 487 م حدث زلزال دمر المدينة بكاملها ,لكن المذبح القديم والأيقونة بقيا ,,اعتبرت تلك الواقعة أعجوبة و قد استبد العجب بالحجاج الذين كانوا يتقاطرون إلى المكان بعد ذلك ,بأعداد تزايدت باستمرار.
بعد فترة قصيرة مر بها الملك قسطنطين أمر ببناء المدينة من جديد وأطلق عليها اسم كونستانسيا…
طرطوس من العهد العربي حتى نهاية الحملات الصليبية:
استولى العرب في أيام خلافة عثمان بن عفان على المدينة عام 638 م بقيادة عبادة بن الصامت عرّبوا اسمها ليصبح أنتارتوس , اشتهرت المدينة في مطلع هذا العهد لاحتوائها على نسخة من مصحف عثمان يوم لم يكن في العالم سوى بضع نسخ من المصحف الشريف (أبو الفداء في كتابه مختصر التاريخ و أبو العباس القلقشندي في كتابه صبح الأعشى).
عهد إلى معاوية بن أبي سفيان والي سوريا بإعادة بناء المدينة وتجميلها ,, حيث أنشأ فيها هذا الأخير ورشات عمل لمختلف الصناعات منها صناعة السجاد الأرمني الذي كان يصدر إلى مدن الشرق .
في شهر شباط من عام 1099 احتلها الصليبيون بقيادة الكونت ده تولوز وأصبح اسمها طرطوز ,ومن ثم تناوب السيطرة عليها ملك بيزنطة وأمير انطاكية وأمير طرابلس الذي سلمها إلى ابنه ألفونس(2) الذي بدوره حصنها تحصينا منيعا وجعل منها قاعدة حربية هامة ومرفأ رئيسياً للتموين بحكم موقعها الجغرافي البحري الهام القريب من انطاكيا و قبرص و اوربا.
لفتت التحصينات المنيعة التي أنشأها ألفونس ومَن جاء قبله أنظار العلماء والمستشرقين و منهم (العالِم ري) إذ يقول:
إن للمدينة خرائط دفاعية غريبة على شكل أسوار حجرية مدعومة بأحد عشر برجاً (أخذت من بقايا الآثار الفينيقية في أرواد و عمريت) وعلى ثلاث مستويات من الحماية العسكرية : الأول يتطابق مع المدينة الأسقفية بطول 350م (أي ما يحيط بالكاتدرائية الموجودة في أقصى شرق المدينة القديمة,متحف طرطوس اليوم) ,والثاني يتوافق مع المدينة العسكرية التي تعرف بمدينة الفرسان (حيث تقع المستودعات و لثكنات العسكرية وغرفة فرسان الهيكل و مراكز القيادة), أما الثالث يتوافق مع البرج المحَّصن “دونجون” الذي يمثل الحماية القصوى للتحصينات المحمي بسورين ارتفاع احدهما 30 م(3) وخندقان كبيران حفرا في الصخر يُملأان بماء البحر عند الحاجة.
خلال تلك الحقبة التاريخية لم يكن استقبال الحجاج فيها المصدر الهام للدخل فحسب بل كانت طرطوس بلداً صناعياً هاماً ,اشتهر بصناعة قماش الكاميليو المصنوع من شعر الجمل ,كان هذا القماش مرغوباً جداً من البلاط الفرنسي حتى أن الملكة مارغريت كانت توصي الحجاج ب100 قطعة من مختلف الألوان ,ما أن ترى القماش حتى تركع أمامها تحسبها ذخائر مقدسة.. (شهادة ” الأمير جوان فيل”).
بقيت طرطوس وكاتدرائيتها يوصى بها الحجاج المسيحيون كنقطة توقف على الطريق التي تقودهم من الشمال الأوربي إلى القدس حتى نهاية العصور الوسطى .
صلاح الدين الأيوبي أمام أسوار طرطوس:
أما صلاح الدين الأيوبي فقد بلغها في شهر تموز من سنة 1188 م قادماً من طرابلس ,أحكم قبضته على المدينة الأسقفية بعد أن طوقها بإحكام على شكل هلال امتد من البحر إلى البحر وأنزل أضراراً جسيمة بالكاتدرائية فلجأ السكان إلى البرجين داخل المدينة القديمة ,سقط أحدهما في يد أحد أمراء جيش صلاح ورمى حجارته بالبحر و عجز عن الاستيلاء على البرج الثاني (الذي يرتفع لأكثر من 30 م) فرحل عن المدينة بعد فترة وجيزة بعد أن عقد هدنة مع فرسان الهيكل..
لم تسقط طرطوس نهائياً بيد العرب إلا في شهر أب من سنة 1291 إذ فتحت المدينة أبوابها لعماد الدين قائد جيش السلطان مالك الأشرف ولجأ الهاربون من الفرنجة إلى جزيرة أرواد ومن ثم إلى قبرص .(4)
فيما بعد في سنة 1340 فقدت المدينة تحصيناتها (العمري) من ثم خضعت للمماليك الذين أعطوها اسمها الحالي (طرطوس) وفي العهد العثماني أفل نجمها و أصبحت تابعة لولاية طرابلس …..
(1) الأيقونة موجودة اليوم في” سيدة صيدنايا ” التي بناها الامبراطور جوستنيان عام 547 م.
(2) شعار إمارته موجود حتى يومنا هذا فوق مدخل أحد القلاع في طرطوس القديمة.
ت ي لورانس (المعروف بلورانس العرب) جاء إلى طرطوس عام 1909 محضرا لرسالة الدكتوراه عن
فن العمارة العسكرية في العصور الوسطى .
(3) ما زال قائماً حتى يومنا هذا
(4) كان عدد من فرسان الهيكل من بين اللاجئين , أخذوا يرسمون أيقونات للسيدة مريم وقاموا بتصديرها وتوزيعها في اوربا .
المراجع: 1) طرطوس في العصور الوسطى .مجلد الحوليات الأثرية السورية رقم33 ص86
2) المختصر في التاريخ : أبو الفداء
3) ولاية بيروت: الخزانة التاريخية
4)صبح الأعشى :القلقشندي
5) لبنان في التاريخ: فيليب حتي
6) كتاب طرطوس :إلما أنبر نيتزي ,غاسبار باسكوال , مونتانر , كارمن مولبثرس .. بلدية بالما مايوركا
7) أرواد والمناطق المحيطة : جان بول كوكس ريكوكيه
(سيرياهوم نيوز3-غرفة سياحة طرطوس)