محمد نور الدين
ليس التوتّر بين تركيا وإسرائيل جديداً، لكنه ظَلّ دائماً، في عهود الحكومات العلمانية أو الإسلامية الحالية على السواء، تحت سقف ضبط قواعد التنافس، قبل أن تأتي عملية «طوفان الأقصى»، وما أعقبها من حرب إبادة على قطاع غزة، لتمثّل نقطة تحوّل كان يُفترض، بحسب بعض التوقعات، أن تدفع نحو تجاوز ذلك السقف. لكن تركيا قرّرت المضيّ في لعبة مزدوجة: فمن جهة، تنتقد ممارسات الاحتلال، ويشهّر رئيسها، رجب طيب إردوغان، بإسرائيل، ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، في مختلف المحافل الدولية؛ ومن جهة أخرى، تمتنع عن اتّخاذ إجراءات عملية تترجم موقفها اللفظي. واستمرّ هذا الحال إلى أن دخلت تركيا بقوّة على خطّ محادثات وقف إطلاق النار في القطاع، إذ نسب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إليها الفضل الأكبر في التوصّل إلى الاتفاق بكلّ مندرجاته، بعدما مارست ضغوطاً على حركة «حماس» للقبول بالصفقة. وإذ بدا، عقب توقيع الاتفاق، أن أنقرة ضمنت موقعها في إطار القوّة العسكرية المزمع تشكيلها لإدارة أمن غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منها، فقد أعلن نتنياهو، الشهر الماضي، أن تركيا لن تكون ضمن تلك القوّة المقترَحة، وهو ما أزعج الولايات المتحدة التي عبّرت عن عدم ارتياحها لذلك التصريح، الذي عادت إسرائيل لتكرّره قبل يومين.
في المقابل، كانت الصحافة التركية تطلق العنان للحديث عن دور تركيا في هذا الترتيب، باعتبار الأخيرة «العامل الأساسي في القوّة الدولة لِلَجم أيّ عدوان إسرائيلي جديد» – وفقاً لصحيفة «يني شفق» -، في وقت مضت فيه أنقرة في تأكيد دورها عبر استضافتها، في الثالث من الشهر الجاري، اجتماعاً في إسطنبول لوزراء خارجية الدول الإسلامية الثماني التي اجتمع إليها ترامب في نهاية أيلول الماضي في الأمم المتحدة، لمناقشة مسوّدة الاتفاق الأوّلي لوقف إطلاق النار في غزة؛ وهو اجتماع لم يخرج بأيّ جديد، سوى لناحية دعوة القوى المؤثّرة إلى تكثيف ضغوطها على إسرائيل لإدامة التهدئة في القطاع. لكن المفاجأة هذه المرّة، كانت بإعلان المدّعي العام في إسطنبول، الجمعة الماضي، إصدار مذكّرات اعتقال في حقّ 37 مسؤولاً إسرائيلياً مدنياً وعسكرياً، للاشتباه في ارتكابهم إبادة ضدّ الفلسطينيين في غزة، ومطالبته باعتقالهم في حال وطأت أقدامهم الأراضي التركية. وفي حين لم يكشف القرار عن كامل لائحة المشتبه فيهم، فقد أُعلن أن من بينهم نتنياهو، ووزير الأمن يسرائيل كاتس، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ورئيس الأركان إيال زامير، وقائد القوات البحرية دافيد ساعر سلامة. واستند المدعي العام في قراراته، إلى المادتَين الـ76 والـ77 من قانون العقوبات التركي، اللتين تنصّان توالياً على الاعتقال بتهم «الإبادة» وارتكاب «الجرائم ضدّ الإنسانية».
ما يعزّز من مخاوف تركيا، توسيع إسرائيل نطاقَ نفوذها في «العالم التركي»
وفي حين جاء ردّ فعل تل أبيب على ذلك متوقَّعاً، بإعلان أكثر من مسؤول إسرائيلي أن تركيا لن تشارك في قوّة حفظ الأمن في غزة، فقد توقّف كثيرون عند أسباب اتّخاذ أنقرة قراراً باعتقال نتنياهو وبعض الوزراء في هذا التوقيت بالذات، وهو ما يمكن الإشارة في صدده إلى الآتي:
1- تعوّل تركيا على المشاركة في قوّة غزة كونها تمنحها مزيداً من النفوذ في المنطقة. وربّما تكون أنقرة قد شعرت بأن معارضة تل أبيب لهذه المشاركة جدّية، فجاء قرارها إصدار المذكرات بهدف الضغط على إسرائيل للتراجع عن موقفها، وأيضاً لتوجيه رسالة إلى الأميركيين بأنها تستطيع عرقلة عملية تنفيذ الاتفاق في غزة.
2- رغم أن إردوغان لم يَعُد بحاجة إلى إثارة المزيد من القضايا (مثل القضيّة الفلسطينية) لحشد دعم المجتمع التركي، لكن الحاجة إلى تعزيز سلطته تبقى قائمة من وقت إلى آخر؛ علماً أن قرار الاعتقال «كبير»، ومن شأنه أن يترك انعكاسات سلبية على العلاقات التركية – الإسرائيلية، والتركية – الأميركية، في غزة وسوريا وفي المحافل الدولية.
3- مع أن إسرائيل لمّحت إلى أن مصر لن تشارك في قوّة غزة، لكن ذلك يبدو مستحيلاً، نظراً إلى كونها الدولة الوحيدة التي تقع في جوار القطاع. وفي المقابل، فإن استبعاد أنقرة – في حال حصل – لن يثير غضب القاهرة، بل ربّما يسرّها، نظراً إلى روابط الأولى بـ«حماس» من جهة، وإمكانية أن يستجلب تداخل العاملَين التركي والمصري في قضية واحدة، «وجع رأس» لمصر، من جهة ثانية.
4- لا ينفصل قرار الاعتقال عن عملية التجاذب القائمة ضمناً بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا، حيث تواصل واشنطن إظهار دعمها للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وآخر تجليات ذلك زيارته إلى البيت الأبيض ولقاؤه ترامب، في حين تحاول تركيا تثبيت حدود نفوذها في هذا البلد. ومن هنا تحديداً، يمكن النظر إلى مسارعة وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، إلى زيارة واشنطن في الموعد نفسه لزيارة الشرع، استباقاً لأيّ ترتيب يمكن أن لا تُراعى فيه مصالح تركيا كاملة.
5- وما يعزّز من مخاوف تركيا، توسيع إسرائيل نطاقَ نفوذها في «العالم التركي»، خصوصاً بعد انضمام كازاخستان إلى «اتفاقات أبراهام»، والذي أُعلن عنه عبر لقاء هاتفي ثلاثي بين ترامب ونتنياهو ورئيس كازاخستان قاسم جومرت توكاييف، من دون مشاركة تركيا.
على أيّ حال، وإذ تبدو مذكرات الاعتقال التركية خطوة «على حافة الهاوية» لتأكيد ثقل أنقرة في المنطقة، فمن غير الواضح ما إذا كانت ستدفع واشنطن إلى مراعاة اعتبارات الجانب التركي أم لا.
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
