رأي رندة حيدر
منذ السابع من أكتوبر، شهدت العلاقات الإسرائيلية-الأميركية تطورات وتغيرات متلاحقة. وبعد التأييد المطلق لإسرائيل في حربها، وتقديم مظلة فولاذية من دعم سياسي وعسكري واقتصادي يُذكّر بحرب 1973، بدأت تبرز اختلافات في الرأي بين الطرفين تحولت إلى توترات تنذر بنشوء أزمة. وكانت إسرائيل تتصرّف وكأنها على طريق اشتباك وشيك مع الإدارة الأميركية، إلا أن الهجوم الإيراني ليل 13-14 نيسان، أعاد بنيامين نتنياهو وحكومته إلى رشدهما. ثبت لكل الإسرائيليين أنه من دون الدعم الأميركي والغطاء الدفاعي الذي قدّمته هي وحلفاؤها لما نجت إسرائيل من هكذا هجوم من دون أثمان باهظة. مرة أخرى، بدا أن نتنياهو كان، من خلال صدامه مع إدارة جو بايدن، يعرّض للخطر العلاقةَ بأهم حليف لإسرائيل على الإطلاق. في رأي أغلبية مراكز الأبحاث الاستراتيجية في إسرائيل، أن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على أن الهدف من الحرب في غزة هو القضاء على «حماس» ونشوء واقع أمني مختلف من دون وجود لسلطة «حماس» نهائياً في القطاع. لكن ثمة اختلافات جوهرية في رؤى الطرفين حيال: الحرب بالمنظور الواسع، واليوم التالي، وكيفية الخروج منها.
بحسب مركز السياسات والاستراتيجيا التابع لجامعة رايخمان (معروف برصانته الأكاديمية ويترأسه اللواء في الاحتياط عاموس جلعاد، وهو من قدامى المؤسسة العسكرية)، تمتاز الرؤية الأميركية عن الإسرائيلية بأنها ترى في الحرب في غزة مواجهة بين المعسكر الموالي لأميركا والمحور الإيراني المدعوم من روسيا والصين. وضمن هذا المنظور، تشكّل الحرب في غزة فرصة تاريخية لإنشاء حلف إقليمي بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة في المنطقة إزاء إيران. وهي فرصة لإعادة صياغة المنظومة الفلسطينية عبر عملية بعيدة الأمد ومتعددة المراحل، تكون المرحلة الأولى منها ضمان عدم سيطرة «حماس» على غزة، وفي مرحلة لاحقة التوحيد بين غزة والضفة الغربية تحت إدارة سلطة فلسطينية «متجدّدة».
وفي دراسة بعنوان «هل من الممكن منع حدوث أزمة في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة؟»، كتب شاي هار-تسفي: «في رأي بايدن خلق أفق سياسي يأخذ شكل حل الدولتين وإشراك السلطة الفلسطينية في إدارة القطاع أمران حيويان من أجل تجنيد الدول العربية المعتدلة في تقديم الدعم المالي والموارد في عمليات إعادة الإعمار في غزة». ويرى الكاتب أن الإدارة الأميركية تعتبر التوصّل إلى وقف إطلاق النار وإلى صفقة تبادل للأسرى سيشكّل نقطة تحوّل في الحرب ويؤدّي إلى وقف إطلاق نار على الحدود اللبنانية وإبعاد شبح الحرب الشاملة.
تعتقد الإدارة الأميركية أن في إمكانها في نهاية الأمر دفع إسرائيل، مقابل دعمها اللامحدود، نحو القبول برؤيتها للحل
لكن هذه الرؤية تصطدم بعدم وجود استراتيجيا إسرائيلية واضحة للخروج من حرب غزة، كما تختلف جوهرياً عن رؤية نتنياهو التي عرضها في وقت سابق من الشهر الماضي بشأن «اليوم التالي»، والتي لم تتضمن رؤية استراتيجية وسياسية واسعة النطاق، وتمحورت على الوضع الأمني في غزة، ولم تتطرق إلى التهديد الإيراني، وتجاهلت الوضع في الشمال والضفة الغربية، وتضمنت مبادئ عامة وحلولاً غامضة، ولم تأخذ في الحسبان مواقف حلفاء إسرائيل في المنطقة والعالم، وبصورة خاصة المصالح الأميركية في المنطقة. وفي رأي مجموعة من خبراء المركز، فإن هذه الرؤية تتناقض بصورة مطلقة مع الرؤية الأميركية.
في المقابل، شدّد خبراء في معهد دراسات الأمن القومي (وهو معهد مختص بدراسة النزاع مع الفلسطينيين وسياسات إسرائيل في الإقليم وينتهج توجهات ليبرالية وموضوعية)، على أن الإدارة الأميركية لن تتخلى عن «مواقف أساسية أميركية أخلاقية مثل الحاجة إلى قيام دولة فلسطينية من خلال المفاوضات مع إسرائيل»، وهي مصرة على إحراز تقدّم، وترى أن نتنياهو يشكّل العقبة الأساسية في وجه إحراز تقدّم وتبنّي توجّهات عمل جديدة.
وفي مقال كتبه كل من تشاك فرايليخ وإلداد شافيط بعنوان «الولايات المتحدة وحرب السيوف الحديدية- توازن مؤقت»، وصفا الشعور السائد حالياً حيال إسرائيل في الولايات المتحدة على النحو التالي:
«عشرات السنوات من خيبة الأمل ومن الغضب المتراكم في مواجهة الرفض الإسرائيلي المستمر لمواقف أميركية أساسية، وفي طليعتها الحاجة إلى الدفع قدماً بحل الدولتين وكل ما له علاقة بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، وصلت اليوم إلى ذروة جديدة. يضاف إلى ذلك الشعور بنكران إسرائيل للجميل». وعموماً، يوصي خبراء المعهد صنّاع القرار في إسرائيل بأهمية التنسيق مع الولايات المتحدة والأخذ في الاعتبار مصالحها في المنطقة من أجل الاستمرار في الحصول على الدعم الأميركي الذي تحتاج إليه إسرائيل حالياً بصورة ملحة.
لكن هناك مراكز دراسات أخرى لا تحمّل إسرائيل مسؤولية الأزمة في العلاقة مع الولايات المتحدة، بل تعتبر أن ضعف الردع الأميركي في المنطقة عموماً، والسياسة المتساهلة مع إيران، انعكسا سلباً على حليفتها إسرائيل. وتتهم هذه المراكز الإدارة الأميركية بأنها تريد تدفيع إسرائيل أثماناً باهظة لدعمها العسكري لها من خلال إجبارها على تقديم تنازلات خطرة للفلسطينيين مثل فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة. هذا، مثلاً، رأي أودي ليفي من «مركز القدس للاستراتيجيا والأمن» (يتبنّى سياسات متشدّدة ويعكس وجهة نظر الأنتلجنسيا اليمينية). ففي رأيه، الدعم الأميركي هو من باب «رفع العتب»، وأن قدرة الولايات المتحدة على إدارة معركة شاملة ضد الإرهاب وضد دول «مارقة» مثل الصين قد تراجعت أخيراً.
معهد «مسغاف» للدراسات الاستراتيجية هو أيضاً من المعاهد التي تسوّق السردية النقديّة إزاء الولايات المتحدة، ففي رأي الخبير في المعهد كوبي ميخائيل، الأميركيون هم مسؤولون عن غياب الردع في وجه إيران. وكتب مقالاً بعنوان «انهيار الردع الأميركي: ماذا يجري في الغابة عندما يتضح أن النمر القوي هو نمر من ورق»، رأى فيه أن الهجوم الإيراني على إسرائيل دليل على الضعف الأميركي، ولأن المجهود الأميركي في المنطقة هو «مجهود دفاعي ولا يشكل أساساًَ لردع قوي».
خلاصة
على ما يبدو، تعتقد الإدارة الأميركية أن في إمكانها في نهاية الأمر دفع إسرائيل، مقابل دعمها اللامحدود، نحو القبول برؤيتها للحل. من جهة أخرى، فإنّ الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل يريد الحصول على الدعم من دون أن يقدّم شيئاً. وهو يوهم قاعدته بأنه لا يخضع للضغوط الأميركية، لكن واقع الحال يشير إلى أن كل ما تفعله إسرائيل في حربها منذ الآن فصاعداً بحاجة إلى ضوء أخضر أميركي: فلا اقتحام لرفح من دون هذا الضوء، ولا مجال لتوسيع المواجهة مع حزب الله من دون موافقة أميركية، والأهم ليس في إمكان إسرائيل القيام بأي عمل عسكري ضد إيران من دون معرفة الأميركيين والتنسيق معهم.
لم تكن إسرائيل يوماً تعتمد بهذا الشكل على الولايات المتحدة وتابعة لها هذه التبعية المطلقة، لكن، مع ذلك، من المستبعد، في الظروف الراهنة، أن تؤدي هذه التبعية المستجدة إلى قبول إسرائيل بخطة بايدن القائمة على رؤية حل الدولتين، حتى لو كان الثمن التطبيع مع السعودية.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية