فراس عزيز ديب
أكثرَ من شهرٍ مر على الحربِ المفتوحة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاعِ غزة، ومازلنا جميعنا أسرى الانتظار في هذا الحدث، منا من هو أسير انتظارِ الشاشات يترقبُ انتصاراً هنا أو عمليةً نوعيةً هناك، تأخذهُ الدموع على الحال التي أصبحت عليها القطاع، ليتساءل بحسرةٍ عندما يرى دبابات الاحتلال تجول في القطاع: ألم تبدأ العملية البرية بعد؟!
منا من هو أسير انتظار الفرح تحديداً أننا جيل تربى على انتظارِ اللحظة التي تنكسر فيها شوكةَ هذا المحتل، هذا الانكسار لن يأتي حكماً عبرَ مقررات القمم الإقليمية مهما تعددت مسمياتها ولا عبرَ الشعارات المُستهلكة التي يتاجر عبرها البعض الآخر، لكن فيما يبدو فإن بقاءنا في هذا الأسر سيطول لدرجةٍ حتى مجرم الحرب بنيامين نتنياهو تحدث قائلاً: «إن المعارك أخذت وقتاً أكثر من المتوقع»، تصريح يجعلنا نتساءل وسطَ حسرةِ الانتظار: هل أن هناك من يدفع نتنياهو نحو الاستمرار حتى النهاية مقابل التعهد بتقديم كامل الدعم لهُ، أم إن هناك من يدفع لقتله سياسياً وإيجاد الأرضية المناسبة للتسوية الشاملة؟!
أن تدخلَ في تحليلِ مستقبل الحرب على غزة فهذا يعني ببساطة أنك ستعيد تكرار نفسك، لأن مستقبل الحرب يسير بالطريقة التي رسمها الأميركي وينفذها الإسرائيلي حرفياً والتي تحدثنا عنها في أكثر من مناسبة، حربَ إبادةٍ جماعية يهدفون منها ألا تتوقف حتى آخر فلسطيني، حرباً لن تكون أشبهَ بتصفيةِ حساباتٍ مع المقاومة الفلسطينية فحسب لكنها بذات الوقت رادع لكل من ينتهج المقاومة طريقاً، هكذا يفكر قادة الحرب ولا يبدو أن هناك ما يبشر باقتراب نهايتها بعدَ أن دخلت الحرب مرحلة جديدة تتمثل بتصاعد وتيرة الهجوم البري ومحاولة قضم المشافي التي تنتهجها قوات الاحتلال، إما عبرَ قصف أطرافها بالتدريج وصولاً لتدميرها بالكامل بعد أن تكون قد امتصت رويداً رويداً الغضب الدولي، أو عبرَ السعي للسيطرة على محيط هذهِ المشافي وبالتالي ضمان هويات الداخلين والخارجين منها، حيث كانت قوات العدو ولا تزال، تدعي أن هذه المشافي مراكز لإطلاق الصواريخ أو مراكز لاستضافة جرحى المقاومة وآخر ما حرر ادعاءَ الكيان بأن أقبيةَ المشفى الإندونيسي تضم مركز عمليات لقيادات المقاومة الفلسطينية، ذرائعَ وأكاذيب ينجح العدو بتسويقها وكأنهُ استبدلَ حرباً برية شاملة للسيطرة على القطاع بحربِ السيطرة على المشافي وهي النقاط الوحيدة التي يتردد العدو بقصفها بشكلٍ مباشر بعدَ أن قصف كل ما يمكن قصفه.
في سياقٍ متصل، تبدو الهُدَن المقترحَة عبارة عن تقطيعٍ للوقت لا أكثر، تحديداً أن الأهداف التي يُحكى عنها لضمان نجاح الهدن لا تبدو أهدافاً متوازنة بين طرفي الصراع، فالمقاومة الفلسطينية رأت باحتجازِ الأسرى إنجازاً يمكن التفاوض عليهِ مستقبلاً، لكن عن أي مستقبلٍ نتحدث اليوم؟
مع الأسف فإن المبادلة مبنية على فكرةِ السماح بإدخال مساعدات إنسانية قد لا تكفي حسب وقت إدخالها احتياجات القطاع لساعات حيث إن القطاع يحتاج لدخول أكثر من 500 شاحنة يومياً، فكم شاحنة سيدخل خلال ساعات الهدنة؟ نتحدث عن واقعٍ لن تبدلَ فيهِ هدن الساعات شيئاً بل ستُظهر المقاومة بمظهر المستجدي الذي دخلَ مغامرة غير محسوبة، نتحدث عن واقع أعلنت فيهِ حتى المنظمات الإنسانية كمنظمةِ الصحة العالمية وغوث اللاجئين اعتذارها عن تقديم أي نوع من المساعدات بعد استشهاد عدد كبير من كوادرها وقربَ نفاذ المخازين بعدَ قيام الكيان بقصفِ المستودعات في سابقةٍ لم تحدث من قبل، إذن ما فائدة الهُدن إن كانت يد الكيان أطلقت حتى النهاية؟ بالتأكيد لسنا ضد الهُدن بل نحن مع كل ما يمكنه وقف حمام الدم هذا لكننا هنا لا نتحدث عن وقفٍ للعدوان واعتراف بما اقترفه الكيان، بل نتحدث عن بطولات وهمية تبحث عنها بعض الدول التي تسمي نفسها راعية لمفاوضات الهدنة، لا نتحدث عن فائدة سيجنيها الشعب الفلسطيني بل نتحدث عن الفائدة التي تجنيها أنظمة بعض الدول العربية التي تقدم نفسها وسيطاً في إقرار هذه الهدنة وتقديم الإعلام لها كرقمٍ صعب في نصرة القضية الفلسطينية ويتجاهل هؤلاء بأن سبب القبول بهم كوسيط في الهدنة أساساً هو تمتعهم بعلاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، لكن كل هذا لم يشفع لهم، لأن مجرم الحرب بنيامين نتنياهو ضربَ عرض الحائط بالدعوات الأميركية والوساطات العربية وتمردَ على قرارات الهدنة المقترحة واعتبر نفسه غيرَ ملزمٍ بها!
في المقابل هناك من يرى أن هذهِ النظرة التشتاؤمية مبالغٌ بها، يرى هؤلاء أن ما جرى ويجري في غزة لا يمكن تقدير تداعياتهِ من خلال عدد الشهداء، فما من معركةِ تحريرٍ تمر من دون شهداء، ألم تخسر الجزائر مليون شهيد ألم يرتق في سورية خيرة أبنائها دفاعاً عن البلد في وجه قطعان المتأسلمين؟ ما الفرق بين المعركتين؟
وجهة نظر تبدو منطقية إلى حدٍّ بعيد، إذ يرى البعض بأن الحرب الدائرة في غزة أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دوفيليبان وجّهَ قبل أيام رسالة لإسرائيل قال فيها: «القوة والسلاح لا يصنعونَ الأمان، وحدها العدالة من تصنع هذا الأمان»، دوفيليبان كان يغمز من زاويةِ أن استمرار الكيان في رفضِ حل الدولتين بالحد الأدنى، سيعني حُكماً تجددَ جولات الحرب عاجلاً أم آجلاً، لكن مشكلةَ هؤلاءِ المسؤولين الغربيين أنهم لا يتكلمونَ إلا بعدَ أن يحملوا صفةَ «سابق»، ترى ماذا يحمل تاريخ دوفيليبان السياسي من إنجازاتٍ على طريقِ تطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بانسحاب الكيان الصهيوني إلى حدود العام 1967؟
بذاتِ الوقت لابدَّ من الاعتراف بأن المعركة نجحت إلى حدٍّ بعيد في إعادة انتاج صورة «دولة إسرائيل» الديمقراطية من وجهة النظر الغربية، مواطن فرنسي قبل أيام وخلال تجمعٍ داعمٍ لوقف الحرب حملَ لافتةً كتب عليها: «لا يمكن أن تكونوا أحفاداً لمن طالتهم المحارق النازية»، هذا الانقسام دخلَ حتى البرلمان الفرنسي والإيطالي، هذا الانقسام غير المسبوق كسرَ حتى فكرة منع التعاطف الشعبي مع غزة لتشهد العاصمة البريطانية والملاعب الإسكتلندية والإسبانية تعاطفاً غير مسبوق من قبل الجماهير.
أما على الصعيد الرسمي فيبدو أن واقعَ القيادة الديمقراطية في البيت الأبيض خيرَ مثالٍ على ما فعلتهُ هذهِ الحرب، إذ بدأت تتحسس الخطر الداهم عن الدعم غير المسبوق للكيان الصهيوني، البعض تحدث عن عملٍ حثيث يجب القيام به وسط الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة لضمان عدم خسارة الأصوات في الانتخابات القادمة، نواب ديمقراطيون طلبوا من الرئيس جو بايدن تشريعاً خاصاً بالفلسطينيين المقيمين في الولايات المتحدة يمنحهم حق الحماية وفرص عمل لتحسين صورة الديمقراطيين، هذه المتغيرات لا يمكن نكرانها أو تجاهلها عندما نعيد تقييم المعركة منذ السابع من شهرِ تشرين الأول حتى يومنا هذا، لكن السؤال هنا هل أن ما تم تقديمه يعتبر إنجازاً يستحق هذه المغامرة؟! وبمعنى آخر لو أجرينا تقاطعاً بين وجهتي النظر السابقتين، كيف يمكننا الاستثمار بسلبيات هذه الحرب وإيجابياتها؟
مما لاشك فيه بأن المقاومة الفلسطينية افتقدت أكثر ما افتقدته في هذهِ الحرب إلى الدعم العربي، أغلبية الدول العربية رأت نفسها وسيطاً أو متفرجاً كما هي الحال لبعضِ الدول الأوروبية، ربما فقد الكثير من الدول القدرة على لعبِ دور البطولة مع تصاعد المد الشعبي الداعم لغزة وعندما نتحدث عن الدعم الجاد لا نتحدث هنا عن بيانات الإدانة والاستنكار والدعوة لمبادرات الحلول، البحث عن الحل الشامل يبدأ من الاستثمار بهذه الحرب بسلبياتها التي أعطت الكيان صورتهُ الحقيقة، بإيجابياتها التي أعادت للعرب بوصلتهم، عدا عن ذلك فإن الكيان الصهيوني مستمر في المعركة ولن يردعه عنها حتى يرى القطاع أثراً بعدَ عين، فإلى أي حد يستطيع الغرب تغطية هذه الجرائم؟ الجواب إلى الحد الذي سيستمر فيهِ العرب بصمتهم، فالغرب جاهز دائماً لتقديم الأضحية وقد يكون التالي بنيامين نتنياهو ولكن المشكلة أن هناك من سيعتبر رحيل نتنياهو، انتصاراً أنجزته الحرب؟! ويبدو بأن قدرنا أن نبقى أسرى الانتظار!
سيرياهوم نيوز1-الوطن