مها يوسف:
مسرح خيال الظل من أقدم الفنون التي أسهمت في تشكيل الوعي المسرحي العربي، إذ جمع بين المتعة البصرية والنقد الاجتماعي، وعبر عن هموم الناس بلغة رمزية ساخرة. وشكل هذا الفن الشعبي قاعدة أساسية انطلقت منها التجارب المسرحية اللاحقة، ليكون جسراً يربط بين التراث الشفهي والمسرح الحديث، ويعكس تفاعل المجتمع مع واقعه السياسي والاجتماعي عبر أدوات فنية بسيطة وعميقة في آن واحد.
تحدث الدكتور محمد الحاج صالح خلال محاضرته التي ألقاها في مبنى اتحاد الكتّاب العرب بطرطوس اليوم عن مسرح خيال الظل منذ نشأته التاريخية ودوره في النقد الاجتماعي وعلاقته بنشأة المسرح الحديث وتطوره” أن الانتشار العالمي لهذا الفن منذ بداياته القديمة، بدءاً من الهند وجنوب شرق آسيا وبلاد فارس، وصولاً إلى العالم العربي خلال العصر العباسي ثم إلى سوريا والدولة الفاطمية في مصر، حيث شهد تطوراً ملحوظاً.
وأكد الحاج صالح أن خيال الظل اتسم بطابع نقدي اجتماعي ساخر، وأسهم لاحقًا في تطور المسرح الحديث نظراً لتشابهه في المقومات الفنية مثل وجود الشاشة والشخصيات ودور المحرّك أو “الكاراكوزاتي” الذي يقابل دور المخرج في المسرح الحديث.
جذور خيال الظل وتطوره
ولفت د. الحاج صالح إلى أصول هذا الفن وأن هناك آراء مختلفة حول موطنه الأصلي بين الهند وجنوب شرق آسيا وبلاد فارس قبل انتقاله إلى العالم العربي. وقد ازدهر الفن في العصر العباسي، ثم في مصر وسوريا خلال الدولة الفاطمية، ليصبح جزءاً من الحياة الاجتماعية والثقافية، ويلعب دوراً مهماً في النقد الاجتماعي والسياسي.
التقنيات والعرض
وأكد الحاج صالح أن عروض خيال الظل تعتمد على دمى مصنوعة من جلود الجمال أو البقر، تُحرك خلف ستارة بيضاء مضاءة من الخلف بواسطة “المُخايل” أو “الكاراكوزاتي”، الذي يؤدي الحوار غالباً بصوت مسجوع لإضفاء إيقاع موسيقي.
وأضاف أن الموضوعات كانت مستمدة من الواقع اليومي، وتقدّم نقداً اجتماعياً وساخراً بما في ذلك التعرض للحكام وفساد رجال السلطة، ما جعل هذا الفن عرضة أحياناً للملاحقة والمنع.
خيال الظل والمسرح الحديث
و تابع أن خيال الظل شكّل حلقة وصل بين التراث الشعبي وولادة المسرح الحديث في العالم العربي، إذ احتوى على عناصر العرض المسرحي التقليدي مثل الجمهور والشخصيات والنص و”خشبة المسرح” في صورة الستارة. وبيّن أن من أبرز رواده محمد بن دانيال الموصلي في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي كتب ثلاث “بابات” مسرحية: طيف الخيال، عجيب وغريب، والمتيّم. وقد مزج ابن دانيال بين الفصحى والعامية، والنثر المسجوع والشعر، ليقرب النصوص إلى الجمهور، مع وظيفة اجتماعية تتجاوز التسلية إلى النقد الرمزي والسخرية السياسية.
التحديات والتحولات
تحدث الدكتور الحاج صالح عن الصعوبات التي واجهت هذا الفن، بما فيها الرقابة وتأثير الحروب والتقنيات الحديثة التي قلّلت من شعبيته. وأشار إلى الجهود الفردية والمؤسسية للحفاظ على إرث خيال الظل، مثل إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج للحماية العاجلة من قبل اليونسكو عام 2018. كما أُحييت عروضه في سوريا من خلال فرقة “ظلال” التي ابتكرت شخصيات جديدة، بينما عمل شادي الحلاق على نقل خبرته للأجيال الجديدة، واستمرت الجهود في مصر بقيادة الدكتور نبيل بهجت عبر تأليف الأعمال المسرحية وتنظيم ورش عمل دولية.
حسين حجازي والحفاظ على التراث
وأوضح أن رحلة خيال الظل امتدت إلى الجهود المعاصرة للحفاظ على الإرث، مستشهداً بتجربة حسين حجازي الذي كرّس حياته لجمع وتوثيق مخطوطات خيال الظل وتسجيل تجربة المعلم سليمان المعماري التي كان يتابعها شغفاً بها في طرطوس وأرواد ومدينة جبلة، وكان بعد كل عرض يقوم بتخيّله من ذاكرته السريعة الحفظ المبدعة. كما جمع حسين سبعة مجلدات حفظت هذا التراث المسرحي ونقلت المعرفة الفنية للأجيال الجديدة، مؤكداً أن خيال الظل نجح في خلق تقاليد مسرحية شعبية أصيلة، وقدّم نقداً اجتماعياً وسياسياً ساخراً، وحافظ على استمرارية فكرة المسرح حتى اكتمال ولادة المسرح البشري الحديث.
اختتم الدكتور الحاج صالح محاضرته بالتأكيد على أن خيال الظل لا يزال مصدر إلهام للمسرحيين المعاصرين في سوريا ولبنان، مثل تجربة عمر بقبوق وفرقة مياس، الذين يسعون لإحيائه وتوظيفه للتعبير عن هموم الراهن، بما يعكس العلاقة الحية بين التراث والإبداع المعاصر، ويؤكد أهمية هذا الفن كحلقة وصل بين الماضي والحاضر في تاريخ المسرح العربي.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
