د. بسام الخالد
المشهد الأول:
قبل الحرب كان يشغل منصباً مرموقاً، (جمَع من تعبه فيه)، مبلغاً محترماً للأيام الصعبة..! وعندما فاحت رائحة فساده وأُعفي من مهامه صار معارضاً هاوياً يتسكع في المقاهي والمنتديات، وأصبح يتحدث عن الأخطاء والفساد وتجاهُل الحكومة لهذه الحالات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ظناً منه أنه يلمّع صورته أمام المجتمع الجديد الذي انتمى إليه، وأقصد مجتمع اللصوص من أمثاله، الذين استنزفوا خيرات البلد وأصبحوا يجلدونه عندما انهالت عليه السهام.
هذا الرجل كان يسكن مثلي في الضواحي، لكن أخباره انقطعت عني بعد مرور سنة على الأزمة، وبعد سنتين تلقيت منه رسالة “فيسبوكية” يطمئن فيها عني.. سألته أين أنت الآن؟ قال: كنت في جولة خارج البلد لتأسيس شركة تجارية وعدت الآن مؤقتاً إلى العاصمة واستأجرت بيتاً بحي راق في العاصمة، لأن الضواحي خطرة وأخاف على أولادي من القذائف!
المشهد الثاني:
استفزتني رسالته على “الفيسبوك” التي يطلب فيها أن أساعده في فتح قنوات مع الصحف السورية لنشر مقالات عن الوطن، كما لو أنه فيه، فهو مشتاق للوطن، كما يقول، ومن الواجب أن يفيه جزءاً، ولو يسيراً، من أفضاله عليه من خلال الكتابة، التي هبطت موهبتها عليه كالمطر، وهو الذي غادر الوطن طوعاً عند اشتداد الأزمة.
تذكرت يوم غادر هذا (الصديق) الوطن فجأة بإجازة خارجية وترك وطنه نازفاً وراءه واستقر في إحدى الدول الأوروبية ليمارس وطنيته على طريقته، وبعد استقرار وضعه تذكر آلام الوطن، وهو في لحظة رخاء حميمة، لينال حصته من النضال الإعلامي الذي يُمَارس مزاداً علنياً على الفضائيات!!
المشهد الثالث:
لم أستغرب وجوده في إحدى الدول الأوربية العريقة، فقد كان مذ عرفته (ثعلباً) يلعب على جميع الحبال، ولم تفاجئني رسالته الإلكترونية التي يخبرني فيها أنه يستعد لافتتاح متجر كبير في بلد المهجر، وإنه بصدد البحث عن شركاء في الوطن ليشحنوا له الشرقيات السورية، التي تدنّى ثمنها الآن بفعل الحرب، (وهو اصطياد إضافي في الماء العكر)!
هذا “الثعلب” أدرك اللعبة مبكراً، فباع كل أملاكه بما فيها منزله الفخم في العاصمة و”فيللا الضيعة” واستقال من وظيفته في السنة الأولى للأزمة مستنداً إلى جنسيات أولاده الأجنبية، حيث كان يحرص على ولادتهم في إحدى الدول الأوربية ليحصلوا على جنسيتها التي خبأها، بيضاء ليومه الأسود، ولسان حاله يقول: ( سورية ما بينعاش فيها).. ونسي أنه أوفد لمدة عشر سنوات على حساب سورية حتى نال شهادة الدكتوراه، وتسلم بعدها مناصب، كان يحلم بها الكثيرون، أثرى من خلالها عمولات وأتاوات وسمسرة..!
المشهد الرابع:
كان وطنياً غيوراً يحمل الوطن بأهداب العيون أينما ارتحل، فالوطن بالنسبة له “قصيدة شعر لا تنتهي”، كما كان يقول.. وكنا ندرك أنه كاذب.. فهو ماسح جوخ من الطراز الأول، ودائماً كان يقبل بدور (التابع) الذي يجيده بجدارة، لأن هذا الدور يحقق له المنفعة من دون أن تُسلط عليه الأضواء!
بعد بداية الحرب بفترة وجيزة ضرب أخماسه بأسداسه فوجد أنه يصلح ليكون (ثورجياً) فانتقل مباشرة إلى الضفة الأخرى ومارس أعمال السمسرة التي يجيد مفاتيحها، فقد بدأ يسهّل السرقات (الثورية) إلى الخارج ويبرم الصفقات باسم اللصوص ويُخرج من سورية ما خف وزنه وغلا ثمنه من ذهب وآثار من خلال شبكة أسسها لهذه الغاية وكان يقبض عمولاته الطائلة وأتعابه مقابل ذلك!
في تعليق على الفيسبوك لأحد منافسيه اللصوص، قرأته بعدها، يقول فيه: إن صاحبنا ينام على الملابين من العملة الصعبة، وقد انتقل إلى لندن ليؤسس تياراً معارضاً من أجل الوطن!
المشاهد الأخيرة:
لن أكمل هذه المشاهد إشفاقاً على هذا الوطن وخوفاً من عدوى هؤلاء التي قد تتفشى فيما بقي من نسيج نظيف فيه، وتذكرت قصة ذلك الفارس العربي الذي كان يجتاز الصحراء على جواده، فلقي رجلاً كان يمشي حافياً، فرقّ له الفارس ونزل عن جواده ودعاه للركوب، لكن الرجل كان لصاً محترفاً، فما إن اعتلى صهوة الجواد حتى أطلق له العنان وفرّ هارباً، فناداه الفارس قائلاً: ” يا أخ العرب.. لقد وهبتك الجواد ولن أسأل عنه بعد اليوم، ولكني أطلبُ منكَ أن تكتم هذا الأمر عن الناس كي لا تنقطع المروءة بين العرب.. سمع اللص كلامه وأخذه الحياء ” وهو لص” وأعاد الجواد إلى صاحبه.. فهل يتمتع ما بقي من لصوص ببعض الحياء و(يحلّوا) عن ظهر هذا الوطن الذي أثخنته الجراح؟!
(خاص لموقع سيرياهوم نيوز)