| علاء حلبي
تُواصل تركيا ارتقاءها في إبداء رغبتها في الانفتاح على دمشق والتطبيع معها، وهو ما يلاقي ترحيباً من روسيا، التي سارعت إلى اقتراح عقْد لقاء على مستوى وزيرَي الخارجية، تمهيداً لآخر على مستوى الرئيسَين. وعلى رغم التمسّك التركي بهذا المسار، إلّا أن ثمّة عوائق عديدة لا تزال تعترضه، من بينها ما هو مرتبط بسياسات أنقرة نفسها، وأخرى متّصلة بالسعي الأميركي لاختراق المناطق الخاضعة للسيطرة التركية، وسحْب ورقة المعارضة السورية من يد حليفة واشنطن في «الأطلسي»
تلقّفت موسكو الرسائل التركية المباشرة، والتي عبّر عنها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، خلال مشاركته في قمّة منظمة شنغهاي في مدينة سمرقند الأوزبكية قبل أيام، حيث ألمح إلى رغبته في لقاء نظيره السوري، بشار الأسد، مغلّفاً حديثه بنبرة «عتاب» بدت مخالفة للنبرة العدائية السابقة. إذ أعلنت الخارجية الروسية، أمس دعمها إجراء لقاء على مستوى وزراء الخارجية، يجمع الوزير السوري فيصل المقداد، بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو، من دون تحديد موعد لهذا اللقاء. وجاء الموقف الروسي الذي يتّسق مع الجهود التي تبذلها موسكو بالتعاون مع طهران (وفق مسار أستانا) لإزالة العوائق بين دمشق وأنقرة، بعد أيام من تسريبات عديدة لوسائل إعلام تركية حول زيارة لرئيس الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، إلى سوريا، وعقْده سلسلة اجتماعات مطوّلة مع نظيره السوري علي مملوك، رافقتها أيضاً، وفق الخارجية الروسية، لقاءات بين مسؤولين عسكريين من البلدَين.
وكانت التسريبات التركية التي تناقلتها صحف عدّة، من بينها صحيفة «صباح» المقرّبة جداً من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، تطرّقت بشكل غير مباشر إلى الثوابت التي حدّدتها دمشق لأيّ انفتاح على أنقرة، والمتمثّلة في انسحاب تركيا من الأراضي السورية، ووقْف دعمها الفصائل المسلّحة، الأمر الذي يبدو أنه لا يزال يشكّل عائقاً أمام التقارب بين البلدَين، في ظلّ رغبة تركيا في الإبقاء على قوّاتها في الشمال السوري في الوقت الراهن، والانسحاب في وقت لاحق وفق شروط، من بينها «إبعاد خطر الأكراد» عن حدودها. وفي مقابل ذلك، تتوافق الجهود التركية للتخلّص من عبء اللاجئين، مع تلك التي تبذلها دمشق وموسكو لإعادة اللاجئين من دول الجوار، سواء لبنان أو الأردن أو حتى تركيا، ما يشكّل بالفعل أرضية أولى للحوار السوري – التركي.
من بين العوائق أمام الانفتاح بين أنقرة ودمشق توسّع الدور الأميركي في الشمال السوري
واللافت في التصريحات الروسية الأخيرة، ترحيب موسكو بأن ترتقي اللقاءات بين البلدَين إلى المستوى الرئاسي، وهو الأمر الذي لا تزال دمشق تلتزم حياله الصمت. صمتٌ تفسّره بعض الأوساط السياسية السورية بأنه تمسّك بالمواقف الرئيسة المعلَنة سابقاً، والرغبة في وضع مخطّط زمني واضح للخطوات التركية والسورية، في ظلّ تعقيدات المشهد الميداني في الشمال السوري. ويأتي ذلك في وقت عاد هذا الميدان إلى الاشتعال بشكل تدريجي، في أعقاب تكثيف الجيشَين السوري والروسي عمليات قصف تجمّعات مسلّحي «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) وفصائل راديكالية أخرى منتشرة في ريف إدلب، وارتفاع مستوى الاحتكاكات بين الجيش التركي و«قسد» في مناطق تشهد وجوداً للجيش السوري، ما يهدّد بوقوع مواجهات بين الجانبَين السوري والتركي، على رغم الضوابط العديدة الموضوعة لتلافي هكذا انزلاق. أيضاً، من بين العوائق التي قد تعرقل الانفتاح التركي على دمشق، تَوسّع الدور الأميركي في المنطقة، ورغبة واشنطن في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، بما يخدم مصالحها، ويضمن استمرار وجودها العسكري في المناطق النفطية. ومع ذلك، تُظهر أنقرة، عبر السرديات السياسية العديدة التي يجري تداولها في الصحف المقرّبة من «العدالة والتنمية»، رغبة كبيرة في إنجاح عملية التطبيع مع دمشق، واعترافاً ضمنياً بفشل السياسة المتّبعة سابقاً تجاه سوريا، والذي يجري تحميله لوزير الخارجية التركي السابق، أحمد داود أوغلو.
تعيش مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في الشمال السوري مخاضاً جديداً، عنوانه محاولة تشكيل جسم عسكري موحّد. ويأتي ذلك، بحسب مصادر ميدانية معارضة، استجابة لمساعي الولايات المتحدة إلى خلق بيئة مناسبة لتنمية استثمارات تستهدف من خلالها إنعاش المنطقة، ضمن خطّة أوسع غرضها ترسيخ حدود السيطرة الحالية، وإفشال مسار «أستانا». وتَكشف المصادر، في حديث إلى «الأخبار»، أن مسؤولين أميركيين، وخلال لقاءات عدة مع ممثّلين عن «الائتلاف» المعارِض و«الحكومة السورية المؤقتة» التابعة له، طرحوا ضرورة إعادة تشكيل «الجيش الوطني»، ووضع حدّ للنزاعات الفصائلية التي ستعيق عملية إنعاش المنطقة اقتصادياً، بالإضافة إلى إشراك وجوه شعبية جديدة في إدارتها أمنياً.
وأمام الطرح الأميركي، بدأ الحديث، خلال اليومَين الماضيَين، عن تشكيل إدارة مؤلّفة من 28 عضواً، تضمّ سبعة ممثّلين عن «الفيالق» الثلاثة التي يتشكّل منها «الجيش الوطني»، بالإضافة إلى سبعة آخرين من وجهاء المناطق، بغية «مأسسة» نشاط الفصائل، وتشكيل إدارة واحدة للمعابر ومصادر التمويل، ومنْع محاولات أيّ فصيل توسيع دائرة سيطرته. على أن هذا الاقتراح قوبل برفض من جماعات عدّة مرتبطة بالاستخبارات التركية، من بينها «سليمان شاه» و«الحمزة»، اللذان يتمتّعان بمزايا اقتصادية كبيرة توفّرها لهما علاقتهما بتركيا من جهة، وسيطرتهما على معابر تهريب عدّة من جهة أخرى. وعلى خلفية ذلك، صدر قرار بفصل الجماعتَين من «الفرقة الثالثة»، ما قد يشعل فتيل مواجهات أخرى مستقبلاً في ظلّ تمسّك الفصيلَين بموقفهما، ومحاولات مُنافسيهما السيطرة على مناطقهما. وتدور شكوك عدة في الأوساط المعارضة حول يد تركية في تخريب مشروع الإدارة الموحّدة المُشار إليه، خصوصاً أن ممثّلي الاستخبارات التركية رفضوا خلال الفترة الماضية ثلاثة مقترحات تَقدّمت بها الفصائل لتوحيد نشاطها. ويعيد ذلك إلى الواجهة الرغبة التركية في استثمار «هيئة تحرير الشام» وتمهيد الأرض لها لتوسع سيطرتها نحو شمال حلب، في ظلّ موثوقية تبعية زعيمها، أبو محمد الجولاني، ونجاح مشروعه في إدلب، والشكّ المتزايد في طبيعة العلاقات التي بدأت تنمو بين فصائل من المعارضة والولايات المتحدة.