اطمئنان الدبلوماسية الروسية إلى انسحاب تركيا، الآجل أو العاجل، من إدلب، لا يجد لدى الأجهزة الدبلوماسية المعنية بالوضع السوريّ ما يبرّره، سواء عراقياً، حيث ثمة ثقة مطلقة بأن الأتراك لا يغادرون أرضاً يحتلونها إلاّ إذا كان هناك مصلحة أو تهديد استثنائيان، أو لدى الخبراء في الأمم المتحدة، أو لدى الأتراك أنفسهم.
وحين يُسأل الدبلوماسيون الأتراك عن إدلب، لا يتحدّثون عن الظروف الأمنية في سوريا، أو الأوضاع الإنسانية، أو حقوق الإنسان، كما يفعل الأوروبيون أو الأميركيين، وإنّما يتحدّثون عن القرم وأوكرانيا وساحات النزاع الكثيرة مع روسيا. فإذا كان الصراع الروسي – الأوكراني يتّخذ في أغلبية النقاشات طابعاً روسياّ – أوروبيا، أو روسياً – أميركياً، فإنه من منظار الدبلوماسية التركية صراع روسيّ – تركيّ أولاً، حالُه حالُ الأزمة المستجدة في كازاخستان، والجمر النائم أبداً تحت الرماد في كراباخ، وما يصفه الأتراك بالدول الناطقة بالتركية، وطبعاً الشيشان وليبيا.
هذا القلق الدائم على المصالح التركية من مجمل الحركة الروسية في المنطقة يحاصر المقاربة التركية لكل صغيرة وكبيرة، قبل أن يبيّن سياق الحوار أن ردة الفعل التركية العدائية تجاه روسيا، حين يكون الحديث عن روسيا، تتكرّر هي نفسها عند الحديث عن إيران أو فرنسا أو حتى الصين.
روسيا فلاديمير بوتين هي، في نظر الدبلوماسية التركية، صناعة أميركية. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كان للولايات المتحدة الكلمة الرئيسة في تحديد حجم روسيا ودورها، وهو ما لم يتبدل في نظرها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وروسيا هذه، لا يمكنها من خلال اقتصادها الحالي، تقديم نموذج يُحتذى به إلى شعوب المنطقة، وإنما هي مرادف، في نظر شعوب المنطقة، للفقر والتعثر الاقتصاديّ، ودائماً وفقاً لأحد الدبلوماسيين الأتراك، الذي يخرج إلى شرفة مكتبه في أنقرة ليَدور حول نفسه قائلاً: نحن هنا في نصف العالم، ونقارب جميع القضايا على هذا الأساس. أمّا موسكو، ففي إحدى زواياه، وتقارب جميع القضايا على ذلك الأساس.
وإذا كان المستمع يظنّ أنه يمزح، في المرة الأولى وفي المرة الثانية، فإنه يتأكّد في المرّات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، مع دبلوماسيين أتراك آخرين يكرّرون اللازمة نفسها، من أنهم يعتقدون فعلاً أن أنقرة، أو مركز القرار السياسي التركي، إنما هو محور العالم، لا واشنطن أو جنيف أو برلين أو موسكو أو القدس المحتلة، مع تأكيد المصدر التركيّ أن الروس يحاولون الظهور في الإعلام على أنهم قوة عالمية، بينما تسعى روسيا جاهدة لتكون قوة اقليمية، لا أكثر، وهو ما تفشل فيه مراراً وتكراراً. فها هي حدائقها الخلفية مسكونة بالخوف من الانقلابات الأميركية والثورات الجاهزة، بينما حديقتها الأمامية عبارة عن “خراب اقتصادي” وشعوب جائعة، تلعن ألف مرة ومرة الخِيار الروسيّ.
ومع انتقال الحديث من الروسيّ إلى الإيراني، يقول دبلوماسيّ تركيّ آخر، يتنقّل بين دول المنطقة كوسيط في حل النزاعات الصغيرة وعمليات التبادل، إن الإيراني يفشل هو الآخر في تقديم نموذج يُحتذى به وإيجابي إلى شعوب المنطقة، بحكم العقوبات أولاً، والحذر التاريخيّ لدى شعوب المنطقة من الفرس ثانياً، بعكس الأتراك والروس الذين يجدون جماعات تنتظرهم في جميع دول المنطقة. ويشير دبلوماسيّ آخر، يقيم ببيروت، إلى أن البريطانيين يحتلون المرتبة الأولى في برنامج الاستثمار في مقابل الجنسية في تركيا، يليهم الإيرانيون. وإذا كانت حجة الإنكليز هي المناخ وساعات الشمس والبحر، فإن حجة الإيرانيين هي “نموذج” الدولة، والذي يقول الدبلوماسي التركيّ إنهم لا يجدونه في إيران. ويضيف أن النتائج التي حققها الحشد الشعبي في الانتخابات العراقية الأخيرة لم تكن أبداً على مستوى انتصاراته العسكرية، لأن التكلفة البشرية للحرب كانت هائلة، والخسارة الاقتصادية أيضاً.
بناءً عليه، فإن تركيا، التي تخوض اليوم “حرب الاستقلال الاقتصادي”، تعاني ما تعانيه جرّاء تحديات اقتصادية كبيرة، لكنها أفضل من حيث “النموذج” من سائر الأفرقاء الاقليميين. واللافت هنا أن الدبلوماسية التركية تنظر إلى نزوح كثيرين من الدول المجاورة لتركيا إليها، بصفته دليلاً على ضعف تلك الدول وقوة تركيا، لكنها لا تنظر إلى كثافة الهروب التركي من تركيا إلى ألمانيا في السياق نفسه، باعتباره دليلاً على ضعف تركيا وقوة ألمانيا.
وفي إشارة تفرض كثيراً من التدقيق في خلفياتها وتبعاتها، يقول مصدر دبلوماسيّ تركيّ إن الأتراك أدّوا الدور الرئيس في إعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب، حين نزح مليون تركي صاروا اليوم خمسة ملايين، فكيف الحال مع إعادة إعمار سوريا التي تتلقى كثيراً من الوعود، لكن لن يعيد إعمارها في النهاية غير الأتراك.
وفي سياق الحديث عن اللاجئين، يلفت المصدر التركي إلى أن اللاجئين السوريين كانوا عاملاً مساعداً وجبّاراً للاقتصاد التركي في السنوات العشر الماضية، ليس فقط بفضل خبراتهم الزراعية والصناعية وحماستهم للعمل، وإنما أيضاً بفضل انتشار أقربائهم حول العالم، بحيث تجد أن اللاجئ السوري في إسطنبول لديه شقيق في ألمانيا، وآخر في إسبانيا، وثالث في السويد، ورابع في كندا. وفي ظل تواصلهم، بعضهم مع بعض، فإنهم يوطّدون ارتباط الاقتصاد التركي باقتصادات هذه الدول، عبر تصدير المنتوجات التركية إليها.
وإذا كانت الدبلوماسية الإيرانية تحرص على إظهار الود، في السرّ أكثر من العلن، للأتراك، وترجيح كفة ما يجمع البلدين أكثر مما يفرّقهما، فإن الدبلوماسية التركية تُظهر ميلاً غريباً إلى إشهار العداء وترجيح كفّة ما يفرّقهما أكثر كثيراً مما يجمعهما.
واللافت جداً في الحديث هو الاستفزاز الهائل للأتراك، والذي يمثّله الوجود الشيشاني في سوريا مثلاً، سواء عسكرياً، عبر إحدى المجموعات الكبيرة والمدعومة من الجيش الروسي، أو سياسياً، عبر جهود إعادة بناء بعض الجوامع التي دمرتها الحرب، بحيث ينتقل المُحاور بسرعة خيالية من حوار سياسيّ – اقتصاديّ على مستوى مهم جداً في مقاربته أحوال الشعوب في المنطقة، إلى تفاصيل إثنية – قومية تذكّر بزواريب الانتخابات في لبنان، فيصبح وجود أشخاص من أصل تركي في القرم هو الأساس الذي ينطلق منه الأتراك في مقاربة الملف الأوكراني، لا خطوط إمداد الغاز، ويصبح الوجود الكردي في إقليم كراباخ هو الأساس الذي ينطلق منه الأتراك، لا موقع الإقليم بين الإمبراطوريات الناهضة من السبات العميق، علماً بأن الدبلوماسي نفسه سيقول بكل ثقة، بين “نزعة تركية” وأخرى، إن الدول لا تحرّكها حسابات قومية أو طائفية أو مذهبية، وإنما المصالح الاقتصادية.
هذا التوتّر عند حديث التركيّ عن روسيا وإيران سيتحول إلى ودّ مصطنَع واضح عند الحديث عن السعودية ومصر، يوحي بتحضير الدبلوماسية التركية أرضَها لانعطافة مهمة. فالحديث يبدأ من الإشادة بذكر وليّ العهد السعوديّ محمد بن سلمان، الذي خاض في نظر الدبلوماسية التركية غمار المغامرة الإقليمية في جميع الجبهات، قبل أن يقرّر “بذكاء” الانكفاء.
وإذا كانت الدبلوماسية تتطلع إلى زيارة إردوغان للرياض كمقدمة رسمية لفتح الصفحة الجديدة، عبر عشرات الاتفاقيات والاستثمارات الخليجية في تركيا، فإنها تؤكد أن كلاً من السعودية وقطر والإمارات، لا قطر وحدها، عرفت الحدود الجغرافية لأدوارها أو نفوذها في المنطقة، مع التأكيد أن إسطنبول لا تستشعر اليوم أي منافسة أو خطر على قيادتها للعالم الإسلامي من جهة الرياض، بل هي تحرص على مراعاة الرياض و”الوقوف على خاطرها” في دول كثيرة، من لبنان إلى باكستان.
ويؤكد المصدر أن علاقات تركيا العربية اليوم تركّز على مسارين أساسيين، بعيداً عن قطر والخليج: أولاً، الجزائر التي تمثّل شريكاً استراتيجياً واقتصادياً أساسياً جداً لتركيا، وبوابة مهمة إلى إفريقيا. وثانياً مصر، التي التفتت إلى أهمية “التشبيك” مع تركيا بعد الانفتاح التركي الكبير على الجزائر، ودخلت العلاقة التركية – المصرية مرحلة جديدة.
وإذا كان المصدر الدبلوماسي التركي يميل إلى التأكيد أن أوضاع جميع الدول في المنطقة ليست بخير، فإن هذا يسري في نظره أيضاً على مصر، التي تعيش “نهضة اقتصادية” في الإعلام فقط، بحيث إن الحقيقة في أرض الواقع تناقض ما تسوّقه القاهرة في وسائل الإعلام، مع التأكيد دائماً أن أفريقيا تمثّل الهدفَ الرئيسَ للأتراك اليوم بحكم بحثهم عن المعادن، وقناعتهم بأن استقلاليتهم الاقتصادية المنشودة رهن تأمينهم موارد ثابتة للمواد الأولية للصناعة.
وفي النتيجة، في ظلّ نهوض الإمبراطوريات القديمة لتحصين أسوارها وتحسين اقتصاداتها، يُفهَم من الحوار مع الدبلوماسيين الأتراك أن خصمهم الأول في المنطقة هو الروسيّ لا الأوروبي، حتى لو كانت ظروف التعبئة تقتضي تصعيداً مع أوروبا بين وقت وآخر.
أمّا الإيرانيّ فجارٌ صديق، لكنه ليس شريكاً، بينما السعوديّ لاعب ثانوي يقتضي استيعابه، في موازاة الحرص على التفاهم مع مصر، ما دامت تقبل النفوذ التركي في المنطقة، وترضى أن تكون صلة وصل لتركيا بأفريقيا.
(سيرياهوم نيوز-الميادين١٦-١-٢٠٢٢)