الرئيسية » ثقافة وفن » مصطفى حجازي… علم النفس وقضية الإنسان المقهور

مصطفى حجازي… علم النفس وقضية الإنسان المقهور

كامل مهنا

 

كبير آخر يرحل من كوكبة الأصدقاء، وخسارة كبيرة حلّت برحيل الدكتور مصطفى حجازي، عالم النفس والاجتماع، والمفكر المبدع المتميز، الذي نشر أفكاره في لبنان والعالم العربي والعالم، عبر مؤلفاته الغزيرة، والدراسات والأبحاث التي قدمها لطلابه وللمؤسسات التي عمل معها. وكنت شاهداً في مؤتمرات شارك فيها، على التفاعل معه، واستلهام أفكاره وعباراته ومصطلحاته واقتباسات منه.

مقالات مرتبطة

هل يُفتى وشوقي خرج من المدينة؟ محمود شريح

لقد كان تركيزه على موضوع التخلّف في المجتمع العربي الذي يشغل عدداً من المهتمين، وكذلك موضوع الأنا القوية، واستخدامه لمصطلح «المريسة »، أي الرغبة الدائمة في الترؤس. وكانت معالجته لموضوع المرأة ومشاركتها الرجل جاذبةً لما فيها من أفكار جديدة لافتة لنظر المهتمين.

وكان لنا، في «مؤسسة عامل الدولية »، شرف التعاون مع الفقيد الكبير الدكتور مصطفى، منذ بدايات انطلاقتها عام 1980، عن طريق مؤسسة «تيم انترناشيونال لتطوير القدرات البشرية»، عندما انتدب من تلك المؤسسة الدولية لتدريب كادرات «عامل »، وقد دعونا إلى ورش التدريب هذه مؤسسات إنسانية أخرى، شاركت معنا في الإفادة من خبراته المعمقة. من يومها بدأت العلاقة تتطور، واستمرت حتى آخر أيامه، معه ومع زوجته وابنه وابنته.

كان الدكتور مصطفى يركّز في دراساته وأبحاثه على الإنسان وتنمية القدرات البشرية وتمكين المرأة، والعمل الجماعي. وكان بارعاً في أسلوبه المبسط والعميق والجاذب، وفي دراساته الموضوعية، وتشخيصه للمشكلات النفسية والاجتماعية التي تنتشر في مجتمعاتنا، وفي تقديمه للخلاصات التي تفيدنا في عملنا. وهكذا، توطدت العلاقة به، بالتوازي مع آخرين، مثل المؤرخ الدكتور إبراهيم بيضون، والباحث الاقتصادي الدكتور نجيب عيسى، والدكتور سمير مقدسي، والدكتور جورج قرم والدكتور حسن الشريف، وعدد من الإخوة والأخوات الذين كنا نلتقي بهم كأصدقاء، وفي الوقت نفسه نتشارك معهم في المهمات الإنسانية.

 

مرشد المؤسسة

كنت أطلق على الدكتور مصطفى لقب «مرشد المؤسسة »، لما كان له من قدرة على توصيف الحالات وابتكار المصطلحات المهمة والمضيئة، وتقديم اقتراحات وجيهة. كنت مثلاً أقول «القائد الحقيقي هو الذي يصنع قيادات ». أما هو فقد اختصر الجملة بكلمتين: «القيادة المنمّية ». وفي ظل الصعوبات التي نواجهها في «عامل »، كمؤسسة مدنية غير طائفية، منتشرة في جميع المناطق اللبنانية، بل كمؤسسة دولية، كنا نجلس معه، ونتباحث في تذليل تلك الصعوبات، فيهوّن علينا المهمات باقتراحاته، ويساعدنا في بناء أفكار مهمة لمستقبل عملنا. ولمّا كنت أرفع شعار «التفكير الإيجابي والتفاؤل المستمر»، طرح هو موضوع «القوة الوثّابة ».

 

 

 

وهكذا انتقلنا معاً لنقاش كيفية تطوير القدرات البشرية. وزادت علاقتنا قرباً وتقرباً، إلى أن بات يتكرم بتمثيل المؤسسة في مؤتمرات خارج لبنان، في القاهرة ودول أخرى عدة، ووصلت مشاركتنا معاً إلى تحرير كتاب «دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة المخاطر التي تتعرض لها الأسرة في لبنان »، وكتابة مقدمة متميزة لكتابَي «أبعاد التنمية والعولمة المستبدة» و «مواجهة الاستثمار المفرط لمنظمات المجتمع المدني» مميزاً فيها بين العمل الأهلي والعمل المدني.

كانت العلاقة بيننا شبه يومية، وكنا محظوظين به لأنه صاحب ثروة فكرية مهمة وعميقة أفادت وتفيد الطلاب والأجيال الصاعدة، وخصوصاً أنه اهتم في كتاباته بالناشئة. وقد أنجز دراسة أذكرها كثيراً في مداخلاتي، تمحورت حول سؤال طرحه على مديري عدد من المؤسسات العربية، عن ملاحظاتهم على طبيعة عملهم، وكانت الإجابة واحدة: لا اعتراف بأدوارهم. استفدنا من تلك الدراسة في «عامل » المؤسسة الإنسانية النهضوية المبنية على الكرامة الإنسانية، بأنّ كوادرها الـ 1800 الذين من بينهم 85 في المئة صبايا، كلهم قيادات، ولهم دور ويشاركون في القرارات. بل إن كل مسؤول في عامل مسؤول في المجتمع.

بقي الدكتور مصطفى صديقاً عزيزاً لي وللمؤسسة، وقد تكرّم علينا أخيراً بنص يدعم فيه ترشّح «عامل» لـ «جائزة نوبل »، مبني على موضوع الكرامة الإنسانية. وكان أثناء كتابته النص قد دخل حالته المرضية الصعبة التي كنت تابعتها معه ومع زوجته الدكتورة نهى، وولديه حاتم ودانيا.

 

ساحة قتال

أذكر الكثير من النقاشات التي كانت تدور بيننا، والكثير من الأفكار التي تابعتها في مؤلفاته الكثيرة، ونحتاج إلى استعادتها اليوم وغداً، إذ تركز اهتمامه على نفسية الإنسان المقهور، فرآه يحسّ بالغربة في المجتمع المتخلف، ولا يشعر بأي انتماء إلى السلطة التي يعيش في كنفها، بل بوجود هوّة بينه وبينها، وبالتالي يمكنه أن يخرب المرافق العامة، ويتصرف بعدوانية تجاهها. وحذّر من خطورة غياب السلطة أو ضعف وجودها، إذ يتسبب ذلك في تحول المجتمع إلى ساحة قتال وصراع على النهب. وأنتج الكثير من الأفكار حول الإنسان المقهور، في كتابه الشهير «التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ». وأشار إلى مراهنة الإنسان المقهور على الزعيم المنقذ الذي يمكن أن يخلّصه من أزماته ومشكلاته، وقد أعفى نفسه من أي دور في السعي إلى خلاصه، وكرّس نفسه تابعاً ينتظر معجزة من الزعيم، بل يعطي المتسلط مشروعية تصل إلى حد التقديس.

 

سيادة المستقبل

ربط مصطفى حجازي بين تحرّر المرأة وتحرر الرجل، واتهم الأخير بالتهرب من مأزقه ورميه على المرأة، وجعلها محط إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية معاً. وبدلاً من أن يثور الرجل ضدّ من تسبّب في قهره، نجده يثور ضد من يمثل عاره الوهمي، أي المرأة المستضعفة. وإذا نبغت المرأة، تسحب منها أنوثتها، فالنبوغ من صفة الرجال فقط. ورأى أنّ المجتمع لا يمكن أن يرتقي إلا بارتقاء جماعي للفئات الأكثر غبناً.

وبرأيه أنّ الانفصام بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية هو في صلب مشكلات التعلم الشائعة في المجتمعات النامية. وحدّد أن السيادة المستقبلية هي لمن ينتج أكبر عدد من الأفكار العلمية والبحثية ويحولها إلى تكنولوجيا. كما أن فشل تحقيق الذات يولد شعوراً شديداً ومؤلماً بالذنب، من شأنه أن يفجر عدوانية شديدة. وقد اختصر رأيه بقوله: «آفة الأخبار رواتها، وآفة القضايا مناصروها، وآفة المعتقد دعاته ».

 

ملوك الآخرة والدنيا

ولم يعفِ نفسه من الكلام عن تحالف السلطة والدين، الذي رأى فيه أقوى آليات التحكم وحصار الإنسان في المجتمعات المتخلفة، وهدر إرادته وكيانه. فرجال الدين يتحكّمون بالنفوس، ويمارسون سلطة غير قابلة للنقاش أو المساءلة، يتحولون إلى ملوك الآخرة في مقابل ملوك الدنيا، وليس هناك من منافس لملوك الدنيا في السيطرة على الناس سوى ملوك الآخرة. وإذا هرب الناس من جور الملك يقعون في أسر الأئمة، والطرفان يتحكمان بالإنسان المقهور أو المجتمع المقهور، سواء كانوا رجال الدين في خدمة الملك ومن الداعين إلى ترسيخ سلطته، أم كانوا معارضين له.

وإذا كنا نعمل في مؤسستنا لتحقيق الكرامة الإنسانية، فهو كان أحد الأساتذة في هذا الموضوع، إذ أكّد أنّ العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، يتحوّل فيه الإنسان إلى شيء، أو أداة، أو وسيلة، أو أي قيمة بخسة. كما أكد أنه عند حد معين من مستوى دون خط الفقر، تهون القيمة الإنسانية إلى درجة التلاشي، وتغيب معها كل معاني الكرامة، ويفتح الباب على مصراعيه لمختلف أشكال انحطاط الوجود، ولاستباحة إنسانية الإنسان، أو رضوخه هو ذاته لاستباحة وجوده.

 

حصار الثقافة

وفي كتابه «إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي»، تحدث عن إبداعات كبار الأدباء والفنانين، الذين عرف عنهم معاناتهم من اضطرابات نفسية، فرأى أنها تتم ليس بسبب المرض النفسي وإنما رغماً عن المرض، باعتبارها تجليات للطاقات الحية التي لم يصبها المرض، إنها رد الفعل المعافى على المرض، وبالتالي هي إصرار على إظهار طاقات الحياة.

وفي كتابه «حصار الثقافة: بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية»، يعتبر أنّ التساؤل والتحليل والنقد، كأفعال ذهنية، تتطلب جهداً خاصاً، ومغالبة لميل الدماغ إلى الاقتصاد في الجهد. وفي غياب القناعة الراسخة بفرص النجاح الذاتي، لا يتوصل الفرد إلى النجاح. كما يعتبر أن نجومية الرياضة، كما نجومية الفن، لم تعد غريبة عن ثقافة الربح. أما نجومية الجهد والإنتاج والعلم، فتقبع في مكانها المتواضع.

ويعتبر الدكتور مصطفى أنّ الأصولية تدّعي زوراً أنها تملك الإجابة، كما تملك الوصلة المرشدة إلى طريق الخلاص، واستعادة الإيمان باليقينيات التي انهارت، وأنها تقدم ذاتها كرد فعل على التشاؤم المنتشر شمالاً وجنوباً، حول مستقبل الكون والإنسان فيه.

 

التفكير الإيجابي والشباب

وعن التفكير الإيجابي، يقول: «هو اتجاه ذهني للاهتمام بالأفكار والصور والكلمات المؤدية إلى النمو، النجاح، والتوسع. إنه اتجاه ذهني يتوقع نتائج جيدة وملائمة، كما يتوقع غلبة النهايات الناجحة والطيبة لكل فعل أو وضعية. ويأتي الوعي في أولى خطوات التفكير الإيجابي، فالوعي عنده أن تصبح على صلة بما أنت عليه، وما تشعر به وتفكر فيه وتفعله. وعندما يصبح الإنسان واعياً، فإن آفاق البحث في البدائل والحلول تتجلى. على أنّ التفكير الإيجابي لا يعني أن نتغاضى عن سلبيات الحياة الفعلية، فذلك ليس من الإيجابية في شيء. التفكير الإيجابي هو على العكس من ذلك، ينظر بشكل جدلي إلى سلبيات وضعية ما وإيجابياتها في الآن عينه، ويوازن بينهما. وينظر كيف يمكن العمل على تعظيم الإيجابيات في هذه الوضعية والحد من سلبياتها.

وفي كتابه «الشباب الخليجي والمستقبل »، يعتبر أنّ العمل هو القضية الأم في حياة الشباب، أو القضية الكيانية، لأنها جواز العبور إلى الأهلية الاجتماعية الكاملة: الإنسان المنتج، المستقل مادياً، الذي يمكنه تأسيس أسرة واتخاذ قراراته الحيوية. ويشير إلى أنّ هناك حالة من التناقض الأساسي بين ما تحتاج إليه الأجيال الطالعة للتعامل مع المستقبل بفرصه وإمكاناته وأخطاره وتحدياته، وبين حالة الانشطار الثقافي التي تتجلى معالمها بمزيد من الحدة ما بين ثقافة الصورة والثقافة الأصولية.

ومعروف عن مصطفى حجازي اهتمامه بجيل الشباب والمراهقين، ويختصره بـ «الجيل الناشئ »، ليؤكد تبعاً للدراسات التي أجريت حول الموضوع، أنّ أفضل وسيلة لوقاية هذا الجيل من الآفات، على اختلافها (إدمان، أمراض خطرة، سلوكيات مدمرة ذاتياً)، ليس حملات التخويف الشائعة، وإنما بث الثقة في نفوسهم، وتعزيز تقديرهم لذاتهم واحترامهم، عبر الشغل على ما لديهم من طاقات وإمكانات إيجابية وتنميتها.

وفي كتابه «لماذا العرب ليسوا أحراراً؟ »، رأى أن النهضة لا بد لها من أن تتأسس على مشروع كبير اقتصادي إنتاجي إنجازي، يفرض التغيير السياسي والمؤسسي، كما يفرض تنمية الإنسان وإطلاق طاقاته الحية. واتضح لديه أنّ إسقاط الحكّام لا يكفي وحده لتغيير المصير وبناء مستقبل جديد، وأن وراء استبداد الحكام بُنى استبداد ترسخت خلال عقود طويلة، بل قرون، في المجتمعات العربية على اختلافها، هي التي تسند استبداد الحكّام.

يبقى أن نقول إنّ خسارتنا للدكتور مصطفى حجازي مزدوجة، فهو مرجع كبير سوف نبقى نتزوّد بأفكاره وكتاباته. سوف نفتقده في هذا الوقت الذي نعاني منه في لبنان من تدمير ممنهج للمجتمع، وتحويل بلدنا إلى غزة أخرى. وهو بالنسبة إلى «عامل » صديق وقامة كبيرة، بل هو عضو هيئة الرعاية الوطنية لمشاريع «عامل » التي خسرته مع العضوين الراحلين الأستاذ طلال سلمان والدكتور جورج قرم، كما خسرت رئاسة الراحل الكبير الرئيس سليم الحص لها.

في آخر مرة زار فقيدنا الكبير مقر المؤسسة، كان قد ظهر عليه الوهن بسبب المرض، لكنه كان مصراً على حضور إحدى مناسبات المؤسسة مؤكداً وفاءه لها ومحبته لمحبيه فيها.

أحرّ التعازي لزوجته العزيزة وابنه المهندس حاتم والمهندسة دانيا.

 

* مؤسس ورئيس «مؤسسة عامل الدولية»

 

في سطور

أصدر «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بياناً ينعى الراحل ويتوقف عند مسيرته وإنتاجاته التي أثرت المكتبة العلمية. وجاء فيه: «في ظل عدوان إسرائيلي همجي غير مسبوق، يغادرنا الأكاديمي والمفكر اللبناني المميز الدكتور مصطفى حجازي، بعد رحلة طويلة أمضاها في التأليف والتعليم ورفد المكتبة اللبنانية بعدد من المؤلفات الجديرة التي حاكت علمَي النفس والاجتماع. الدكتور حجازي وهو عضو في «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، من مواليد مدينة صيدا، حصل على إجازة في علم النفس من جامعة «عين شمس» في مصر عام 1960. وفي عام 1964، سافر من أجل زيارة إنكلترا للاطلاع على مؤسسات رعاية الطفولة والناشئة المتكيفة وخصوصاً «تجارب العلاج المؤسسي ». وفي عام 1965، حصل على دبلوم علم الجريمة العيادي من جامعة «ليون» في فرنسا، ثم حصل على الدكتوراه في علم النفس من الجامعة نفسها. شغل الراحل حجازي وظائف عدة منها: أستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية بين عامَي 1983 و 1990، وأستاذ الصحة النفسية والإرشاد النفسي في جامعة البحرين من 1991 إلى 2006.

من مؤلفاته التي لاقت أصداءً واسعة: «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» و«علم النفس والعولمة »، و«إطلاق طاقات الحياة »، و«ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة »، و«الفحص النفسي»، وغيرها من المؤلفات التي أثرت الحقل المعرفي النفسي العربي. المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وإذ ينعى الدكتور مصطفى حجازي، فإنه ينعى قامة علمية كبيرة أثرت الثقافة العربية عموماً واللبنانية خصوصاً بمؤلفات أصبحت مرجعاً لطلاب الجامعات والباحثين في مجالات علمَي النفس والاجتماع».

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١ _الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سوسن ميخائيل تحتفل بعيد ميلادها بعد العمل الجراحي … معتصم النهار يعايد زوجته.. وكندا حنا تشوّق جمهورها لمسلسلها الجديد

    | وائل العدس   كما كل خميس، نجول معكم حول مواقع التواصل الاجتماعي لنرصد أبرز ما نشره نجوم سورية والعرب هذا الأسبوع، وإلى ...