بداية لابد من الإشارة إلى أن هذا العنوان هو للناقد والأستاذ جودت هوشيار .. وسنأتي على تفاصيله ولكن نسأل أولا وقبل ؛ هل الأدب سلعة تجارية ..ومن الذي يجعله كذلك وكيف.. كثيرا ما نسمع عن كتاب أو رواية ما إنها قد باعت مئات آلاف النسخ لكن حين نقرؤها بعين القراءة الفاحصة نجد أنها لا تستحق هذا الانبهار ..
ولكنها الدعاية التي تشعل النار حتى في الماء..
هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم أبدا ولكنها مع انتشار التواصل الاجتماعي ازدادت وتتوسع مع عمليات الاستلاب الفكري الموجه .
كلنا يعرف أن الأدب الروسي قدم للعالم عيون الروايات العالمية..ولكن الآن ثمة ظاهرة جديدة هناك ..هي انتشار روايات الأدب البوليسي …
الناقد العراقي والمفكر جودت هوشيار الذي يرصد ويتابع المشهد الثقافي الروسي عن كثب وله الكثير من الدراسات المهمة في هذا المجال كتب عن هذه الظاهرة وحلل أبعادها وأسبابها ونتائجها ..يقول الدكتور جودت هوشيار وتحت العنوان السابق مصنع داريا لإنتاج الروايات البوليسية :
(كم رواية بوسع أي كاتب أن يكتبها خلال سنة واحدة ؟
الأدباء الكبار من أمثال تولستوي ودوستويفسكي ، وفلوبير ، وبلزاك ، وهمنغواي ، وماركيز وغيرهم من العباقرة ، لم يكونوا قادرين على إنتاج أكثر من رواية واحدة في السنة أوكل بضع سنوات ، رغم نبوغهم المعترف به . فكيف استطاعت ( كاتبة ) لا تتمتع سوى بموهبة أدبية جد متواضعة من إنتاج عشرين رواية في السنة الواحدة ؟ حتى بلغ عدد رواياتها المنشورة خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة ( 280) رواية ، معظمها بوليسية ، مع بعض بهارات الدعابة والفكاهة والنميمة النسائية .
الاسم المستعار لهذه الكاتبة ( داريا دونتسوفاا ) . وهذا الاسم من اختراع دور النشر الروسية ، وإن كانت هناك سيدة ، واسعة النشاط ، تمثل دور( الكاتبة ) داريا دانتسوفا في الحياة العامة.
فما أصل الحكاية ؟
بعد تفكك الإتحاد السوفييتي ، وتردي الأوضاع المعيشية للأغلبية الساحقة من السكان ، وظهور دور النشر الخاصة ، ورواج الأدب الخفيف أو أدب اللذة ، نزل إلى الساحة الأدبية عدد كبير من المثقفين العاطلين وحتى ربات البيوت ، كأسهل طريقة للحصول على بعض المال لتأمين متطلبات الحياة الأساسية . نجح بعضهم ، وراجت أعمالهم وأخفق معظمهم ، فتحولوا إلى ممارسة مهن أخرى ، والموهوبون منهم هاجروا الى الغرب .
تمسكت دور النشر بأصحاب الأسماء الرائجة ، واتفقت معهم على إستغلال أسمائهم تجاريا . وذلك بنشر رواية واحدة لكل منهم شهرياً . وليس على الكاتب الرائج أن يكتب شيئا ، حيث يتولى الكتّاب الأشباح * العاملون في هذه الدور – وهم في العادة من خريجي الفروع الأدبية في الجامعات – هذه المهمة ، مع ضمان حصة معقولة من الأرباح لأصحاب الأسماء الرائجة تجارياً . وما على الكاتب الرائج أو الكاتبة الرائجة سوى تمثيل دور الكاتب أو الكاتبة في الحياة العامة ،و الاشتراك في الأنشطة الثقافية المتعددة ، التي تقوم بها هذه الدور .وهذه الأنشطة واسعة ومتنوعة تتسلح بكل ما وصلت إليه التكنولوجيا الرقمية من وسائط ، إضافة إلى الأنشطة ، التي ترافق معارض الكتاب ، مثل حفلات التوقيع على الكتب، واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية ونشر أخبار الكتاب الرائجين يوميا ، مضمرة في مقالات نقدية مدفوعة الأجور . والبعض ينخدع بهذه الهالة التي تسبغها وسائل الإعلام على كتاب تافهين أو وهميين .
داريا دونتسوفا اليوم ماركة تجارية رائجة . وقد أظهر إستطلاع للرأي أن معظم قرائها من النساء ، اللواتي يقرأن رواياتها في فترات الاستراحة في العمل المنزلي . وقد بلغ إجمالي مبيعات رواياتها حوالي (200) مليون نسخة .
وينبغي الاعتراف بأن السيدة ، التي تحمل اسم داريا دانتسوفا ، ممثلة بارعة تقوم بأداء دورها بإتقان، وتحاول إعطاء انطباع بأنها تستغل كل دقيقة من وقتها في الكتابة.
ففي إحدى لقاءاتها التلفزيونية انتحت جانبا في فترة الاستراحة ، وجلست لتستكمل كتابة رواية ، كانت مشغولة بها . هذا ما ذكرته ( الناقدة ) غالينا يوزيفوفيتش ، التي تقتصر مهمتها على كتابة مقالات دعائية مضمرة مدفوعة الأجور للكتب التي تصدرها عدد من دور النشر الروسية الكبرى .
في تعليق على منشوري السابق ” العزوف عن القراءة الجادة إفقار لحياة الإنسان الروحية ” ذكر الصديق الكاتب الدكتور سهيل فرح – المقيم في موسكو – ما يلي : ” أعاني ما يعانيه زملائي وأحبائي من تفشي زمن غير زمننا ( زمن أقرب إلى التفاهة وضياع البوصلة الإنسانية)، وأعاني تحديدا الأمرين من دور النشر ، فمعظمهم يحمل طابعا : أما مافيوزيا – تافها تحكمه قوانين السوق التي لا قانون لها سوى شم رائحة العملة الخضراء – لا قيمة ثقافية وروحية لهم جميعا – ، أما الدور الاخرى فتكاد تحتضر لشح الأموال .”
روسيا اليوم زاخرة كالعادة بمواهب أدبية عظيمة ، ولكن أبواب دور النشر مسدودة أمامهم ، حيث ترفض هذه الدور نشر أي رواية من الأدب الرفيع ، بذريعة عدم إقبال الجماهير على الأدب الجاد .ويضطر العديد من الروائيين المجيدين إلى نشر نتاجاتهم على حسابهم الخاص). .
إنه مصنع فعلا ولكن لإنتاج الابداع الرديء…وهذا ربما يذكرنا بما يسمى نظام التفاهة ..ولن نكون بعيدين عن الواقع إذا ما قارناه بما كان يصدر في الوطن العربي من سلسلة روايات تحمل عنوانا مغريا وجذابا وتخاطب المراهقين الذين تتوجه إليهم وقد انتشرت بشكل كبير..
ولكنها الآن همدت مع فورة الأزرق..
ترى هل يمكن أن نتمنى عودتها لو بشكل مؤقت لعلها تفتح شهية القراءة..؟
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة