تهاني نصار
تستضيف مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا معرض «إحلال» Displacement الذي يتناول موضوع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين المحتلة، ليمتد حتى نهاية آذار (مارس) 2025. يأتي المعرض من تنظيم «مؤسسة متحف ياسر عرفات» في مدينة البيرة وسط الضفة الغربية، بالتعاون مع «متاحف إزيكو»، ويتّخذ من «متحف بو-كاب» محطةً له. هنا إضاءة على التاريخ المشترك للبلدَين في النضال ضد نظام الفصل العنصري، ومقاومة الاستعمار الغربي. كما نتناول رمزية افتتاح معرض عن النزوح والتهجير القسري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، في ظل استيلائه على أراضي السكان الأصليين وتوسيع مستعمراته المخالفة للقانون
في الثامن من آب (أغسطس) الماضي، افتُتح المعرض الفلسطيني «إحلال» (بمعنى التهجير أو النزوح القسري) في مدينة كيب تاون، إحدى العواصم الثلاث لجمهورية جنوب أفريقيا. في الأصل، كان المعرض قد أقيم للمرة الأولى في منتصف شباط (فبراير) 2023 في «متحف ياسر عرفات» بالقرب من مدينة رام الله. ترأّس وفد المشاركين في الافتتاح يومها رئيس الوزراء محمد اشتية، ورئيسة لجنة المتحف انتصار الوزير (أم جهاد). جاءت أهمية المعرض من حقيقة أنّه يوثّق بالنص والمحاكاة المصوّرة «أساليب نهب الأرض وكل النشاطات الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين منذ أول مستعمرة في عام 1967 حتى يومنا هذا». قضية تشكّل «التحدي الوجودي الأول للشعب الفلسطيني بكل مكوناته» على حدّ تعبير مدير عام «مؤسسة ياسر عرفات» أحمد صبح. في حديثه لـِ «إذاعة صوت فلسطين» عن المعرض، اعتبر صبح أنّ الاستعمار الاستيطاني لأرض فلسطين هو «جوهر أيديولوجيا الحركة الصهيونية» التي عمدت إلى الاستيلاء على الأراضي بطريقة ممنهجة.
واستطاعت قوات الاحتلال تنفيذ كل عمليات النهب تلك عبر الالتفاف على القوانين والإفادة من مسمَّيات مختلفة أطلقتها على الكثير من الأراضي تحت تصنيفات عدة مثل ما سمي بـِ «أراضي الدولة» (لكيان الاحتلال) و«مناطق عسكرية مغلقة» و«قواعد عسكرية إسرائيلية» و«مناطق الألغام» و«المحميات الطبيعية» وغيرها. كما عمد الاحتلال إلى استغلال مساحة كبيرة من الأراضي المزروعة المحيطة بكل مستعمرة حتى يتوسّع تدريجاً ويضمها إلى المستوطنات. ويدّعي الاحتلال في الدفاع عن ممارساته الاستيطانية في المنطقة، بأنّ المساحة المجملة لمستعمراته كا
فة في الضفة الغربية والقدس الشرقية لا تتجاوز نسبة أربع في المئة فقط، لكن هذه النسبة «الصغيرة» المعلنة هي غيض من فيض. إذ إنّ كيان العدو يسيطر على أكثر من سبعين في المئة من الأراضي بالتلاعب على المسمّيات والقوانين عبر خلق أشكال متعددة من الطرق الالتفافية مثل إقامة الحواجز وتشييد الجدران والسيطرة على مصادر المياه.
جاءت مبادرة استضافة المعرض في «متاحف إزيكو» من سفير جنوب أفريقيا لدى فلسطين شون بينفليد، الذي زار «متحف ياسر عرفات» واطّلع على الصور والتوثيقات لتاريخ الاستعمار الاستيطاني وتمدّده غير القانوني في الأراضي الفلسطينية. حينها، اقترح على إدارة المؤسسة عرضه في متاحف جنوب أفريقيا في أيار (مايو)، لكنّ «ما حصل في السابع من أكتوبر والحرب الصهيونية على غزة التي راح ضحيتها حوالى أربعين ألف فلسطيني، وتدمير معظم البنى التحتية وتشريد ما يقرب من مليوني شخص» حالا دون ذلك، وفقاً لأمينة التاريخ الاجتماعي في «متاحف إزيكو» لين أبراهامز التي سعت إلى إقناع المؤسسة بتمويل المعرض بالكامل وإحضاره إلى كيب تاون.
وحضر افتتاح معرض «إحلال» في «متحف بو-كاب» رئيس مجلس إدارة «متاحف إزيكو» جوبلاني سيثول، وسفيرة فلسطين لدى جمهورية جنوب أفريقيا حنان جرار، ومدير «متحف ياسر عرفات» محمد حلايقة، ومجموعة من الشخصيات التي تمثل هيئات داعمة للقضية الفلسطينية.
يستعرض «إحلال» صوراً جويّة ورسومات بيانية للمستعمرات والمحافظات في فترات زمنية مختلفة، ليُظهر حجم توسّع المستعمرات عبر العقود حتى اليوم. وفي فيديو محضّر تتجاوز مدته سبع دقائق، يحاكي «متحف عرفات» هذا التمدّد الذي شهد موجة كبيرة بدءاً من عام 1967 وصولاً إلى 2022. كما يسلّط الضوء على عدد كبير من قرارات مجلس الأمن الدولي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين الاستيطان. مع ذلك، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي مستمرّ على حساب القرى الفلسطينية وسكانها. ويضيّق الاحتلال حركة الفلسطينيين بين القرى والمدن عبر فرض قيود عدة مثل إجبارهم على عبور عددٍ من نقاط التفتيش والتحكّم بساعات فتحها وإغلاقها. يستند المعرض في توثيقاته إلى مراكز الأبحاث والهيئات الحكومية والهيئات الأهلية مثل «هيئة مقاومة الجدار»، و«مركز أريج»، ومصادر الأمم المتحدة، والتوثيق الميداني. ويشير تقرير لـ «أونكتاد» (منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) إلى أنَّ إسهام الأراضي الفلسطينية -المحتلة- في الاقتصاد الإسرائيلي، هو ما يقرب من الخمسين مليار دولار سنوياً. في الوقت نفسه، أشارت المنظّمة إلى أنّ الفلسطيني يخسر نحو أربعة مليارات وثلاثمائة مليون دولار سنوياً لأنه لا يمكنه الوصول إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل وفقاً للتقرير.
في محطة ثانية حول الجرائم الصهيونية، يركّز «إحلال» على محرقة عائلة الدوابشة التي ارتكبها مستوطنون صهاينة في 31 تموز (يوليو) عام 2015، حين أضرموا النار في منزل العائلة في قرية دوما جنوب نابلس. يوثق المعرض هذه الجريمة التي أسفرت عن استشهاد الوالدين سعد وريهام برفقة طفلهما الرضيع، بينما نجا ابنهما أحمد ذو الأربع سنوات مصاباً بحروق بالغة، على شكل فيديو يحاكي بالصوت والصورة ما حصل يومها. وهناك محطة أخرى عن واقع حال قرية النبي صموئيل المقدسية المعزولة بسبب الجدار الفاصل الذي بناه الاحتلال عام 2011 فحوّلها إلى تجمّع سكاني أشبه بالسجن، وأعلن أراضي القرية «حديقةً قومية»، ليمنعهم من زراعتها والبناء فيها. تفرض قوات الاحتلال على سكان القرية وجوب استصدار «تصريح إسرائيلي» يمكّنهم من الخروج منها، ويحدّد لهم ما يمكنهم إدخاله إلى القرية/ السجن، من ضمنه كمية المواد الغذائية المسموح إدخالها، التي تكفي لبضعة أيامٍ لا أكثر.
إنّ «متحف بو-كاب» هو جزء من «متاحف إزيكو» الخمسة، ومبناه في الأصل يعدّ أحد أقدم المنازل التي شُيِّدت في منتصف القرن الثامن عشر، في منطقة بو-كاب التاريخية التي أصبحت بعد إلغاء العبودية موطناً لعدد من المسلمين والعبيد المحررين. كانت هذه المنطقة عبارة عن حيّ للرقيق من المسلمين الماليزيين والإندونيسيين الذين أحضرهم المستعمرون الهولنديون إلى مدينة كيب تاون كعبيد. وعانت البلاد من الاستعمار الأوروبي لما يقرب من ثلاثة قرون، فيما كانت في الأعوام المئة الأخيرة تحت الاستعمار البريطاني حتى استقلالها عام 1931. لكنها لم تتخلّص من الاستعمار بشكل حقيقي حتى عام 1994، فقد حكم البيض جنوب أفريقيا ضمن نظام أبارتهايد ومارسَ على السكان الأصليين للبلاد، أشد أنواع التفرقة العنصرية التي تميّز بين البشر على أساس عرقهم وديانتهم ولون بشرتهم. في ستينيات القرن الماضي، أجبر هذا النظام عشرات الآلاف من سكان المنطقة السادسة على النزوح القسري على إثر إعلانها «منطقة بيضاء». يذكر أنّ المنزل الذي يحتضن المتحف، أُعلن نصباً تذكارياً ووطنياً في عام 1965، فيما تأسّس المتحف في عام 1978 ليكون متحفاً للتاريخ الاجتماعي للشعوب.
في مقابلة له حول كتابه «تحرير العقل الفلسطيني» (2023)ـ يتحدث الأكاديمي الغزاوي حيدر عيد، أستاذ أدب ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة في «جامعة الأقصى» التي دمرها الاحتلال الصهيوني في حربه الحالية على غزة، عن ضرورة العودة إلى تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) والحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا. فكونه يحمل الجنسية الجنوب أفريقية، وقد درس وعاش هناك، فإنه حضر أثناء فترة إسقاط نظام الفصل العنصري فيها، ويرى أن على الفلسطينين الإفادة من تجربتهم في مكافحة الفصل العنصري وإنشاء الدولة التي استجاب لها المجتمع الدولي بعد ثلاثين عاماً من النضال المستمر. يشرح عيد فكرته بالقول: «في إسرائيل، لا يتساوى جميع البشر.
يوثّق محرقة عائلة الدوابشة التي ارتكبها مستوطنون عام 2015، حين أضرموا النار في منزل العائلة في قرية دوما جنوب نابلس
وتعرّف إسرائيل نفسها الآن بأنها دولة يهودية. ونحو 22% من مواطنيها هم فلسطينيون، لكنّهم مستبعدون من أن يكونوا مواطنين في تلك الدولة، ناهيك بأربعة ملايين فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال العسكري المباشر في قطاع غزة والضفة الغربية». ويضيف بأنّ دولة الاحتلال ليست دولة لمواطنيها، «بل دولة للشعب اليهودي، الذي لا تربطه بها أي صلة بالميلاد. وعلى هذا، فإن المرء يستطيع أن يكون مواطناً في أي بلد في العالم، لكن باعتباره شعباً يهودياً، فإنه يتمتع بحقوق كاملة في إسرائيل ــ وهي الحقوق التي تحرمنا إياها إسرائيل نحن الفلسطينيين، السكان الأصليين لهذه الأرض». يربط الباحث الفلسطيني الذي استطاع النجاة من حرب الإبادة على غزة، بين «الجنسية اليهودية» و«الجنسية البيضاء» في جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري، «فإذا ولد شخص لأبوين فلسطينيين يعيشان في إسرائيل، فسوف يُحرم أيضاً من حقوق الجنسية اليهودية ويُرغم على الخضوع للدونية المؤسسية، أو يختار مقاومة هذه الدونية، وهو رد الفعل الطبيعي لأي إنسان لائق، مثل الخيار الذي اتخذه نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ الابن».
عيد هو أيضاً عضو اللجنة التوجيهية في حملة المقاطعة التي بدأت العمل عام 2004، بعد اجتماع أكاديميين ومثقفين فلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل والشتات، على إثر صدور قرار المحكمة الدولية بعدم قانونية جدار الفصل العنصري والمستوطنات الإسرائيلية على أرض فلسطين وشرعيتهما. أصدرت الحملة حينها أول نداء تأسيسي لحملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لكيان الاحتلال، وبدأت بدعوة المؤسسات الأكاديمية الدولية لمقاطعة مؤسسات الاحتلال لدعمها سياسة التفرقة العنصرية «الأبارتهايد» التي تمارس ضدّ فلسطينيي الداخل، إضافة إلى عدم تطبيقها القرار 194 الذي ينصّ على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم.
يضيء على واقع قرية النبي صموئيل المقدسية التي حوّلها الاحتلال إلى ما يشبه السجن، معلناً أراضي القرية «حديقةً قومية»
يحذو عيد خطى المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935-2003) في طرحه لمفهوم «التحرر من أوسلو/ نزع الأوسلوية» (De-Osloization) التي خلقت «حلّ السجنَين» على حد تعبيره، بتنازلاتها في الأعوام الماضية وبإنشائها للبنى التحتية السياسية والثقافية التي تخدم الاستعمار. ويدعو الباحث إلى رفض هذه السياسية عبر «اللامشاركة»، أي محاولة إيجاد بديل عن السياسة الحاصلة يبدأ برفض هذا النظام. وكان سعيد صاحب كتاب «الاستشراق» (1978)، قد انتقد بصورة مباشرة اتفاقية أوسلو عام 1993 في أكثر من مكانٍ ومناسبة، أهمها كتابه «أوسلو 2: سلام بلا أرض» (1995) معتبراً أنّها ستحول دون قيام «دولة فلسطينية حقيقية». كما وصف «منظمة التحرير الفلسطينية» في قبولها بشروط الاتفاقية بأنّها قد «حوّلت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء الحفنة ذاتها من الأشخاص في القيادة». كان واضحاً في بعض مقابلات سعيد أنّ تجربة جنوب أفريقيا كانت نقطة مرجعية ثابتة بالنسبة إليه، وكان يعنيه دراسة التجربتين، الفلسطينية والجنوب أفريقية (الأولى عبر منظمة التحرير والثانية عبر المؤتمر الوطني الأفريقي)، والمقارنة بينهما، خالصاً إلى أنّ الثانية كانت «حازمة إستراتيجياً ومرنة تكتيكياً» بينما التجربة الفلسطينية لم تكن كذلك.
ليس مستغرباً ولا غريباً، على البلاد التي أنجبت الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، وشهدت نضالاته ضد إحدى أفظع التجارب البشرية أي «نظام الفصل العنصري»، أن تعيد قراءة ما يحدث منذ عقود في فلسطين تحت الاستعمار الإسرائيلي. لذلك، فإنّ تجربة المتحف ليست مجرّد استعادة، بل هي أيضاً استنارة للأجيال القادمة، علّها لا تعيد أخطاء من سلفوا.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار