فيصل سلطان
لمناسبة دخول متحف نابو إلى منصات المتاحف العربية والدولية، يأتي معرض “شعوب ضد الحروب والقنابل والحكومات” بمثابة نظرة تاريخية على أبرز الاتجاهات الفنية التي عرفها فن الملصق بعد أكثر من 60 عاماً على حرب فيتنام.
فقد قامت بعد الحرب العالمية الثانية ثورات فنية واسعة النطاق في تصميم الملصق كتجربة بصرية وثقافية هامة تهدف إلى تسليط الضوء على نضال الشعوب ضد الحروب والقنابل النووية وسياسات الحكومات التي تهدد الأمن والسلم العالميين. لذا فإن المعرض في جوهره نظرة للتعلم من التاريخ بالإضافة الى الكشف عن تنويعات التأليف الفني للملصق في عاصمتين عالميتين للفن هما أمستردام وبيروت.
يحتوي المعرض (يستمر لغاية 31 آب/أغسطس) على مجموعة نادرة من الملصقات التاريخية صمّمها فنانون وناشطون من مختلف أنحاء العالم، حيث يجسّد كل ملصق رسالة احتجاج قوية ضد العنف والتسلح النووي، ويدعو إلى السلام والتضامن الإنساني. هكذا تحولت جدران المتحف عبر أكثر من 160 ملصقاً إلى منصة صامتة تصرخ برفض القنابل والعنف ورفض تلوث البيئة. إنها دعوة للجميع (لا سيما الأحزاب اللبنانية) إلى تبنّي لغة الحوار والتسامح بدلاً من الصراعات المدمّرة.
تناولت أجنحة الملصقات الأوروبية مراحل تاريخية شهدتها المدن الأوروبية من حروب وثورات وانتفاضات شعبية خلال القرن العشرين وذلك عبر ثلاثة عناوين: القنبلة النووية والحروب / حكومات، ثورات، سياسة، استعمار / ثقافة، فن، سخرية، النسوية. أما أجنحة الملصقات العربية فقد كشفت عن خريطة سايكس بيكو ووعد بلفور ونماذج من ملصقات “من أجل فلسطين” والتضامن “مع يوم الأرض” و”من أجل عراق موحّد ومستقل”، إضافة إلى ملصقات عن “الحرب الأهلية اللبنانية” و”المقاومة في الدفاع عن الجنوب”، ولمحة عن “النازية الجديدة” التي مرّت بجنوب لبنان، من خلال عرض مجموعة من الصور الوثائقية (قبل وبعد) لمدينة شمع الجنوبية المعروفة بأوديتها وأحراجها ومبانيها التراثية والتي كانت دائماً مرمى للأطماع الإسرائيلية. تعرضت المدينة في اجتياح عام 2024 لتدمير شبه كامل.
الماضي الذي يطلّ برأسه على الزمن الراهن
بعد مرور ثمانية عقود على إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، استعاد المتحف شعاراً تاريخياً أطلقته الثورة الثقافية المضادة في الستينيات: “من أجل السلام والموسيقى: لا للقنابل”، هذا الشعار، الذي يتجسّد اليوم في مجموعة من الملصقات النادرة التي اقتناها متحف نابو من مزادات دولية، ليس مجرد صدى لماضٍ مؤلم، بل هو ناقوس خطر يُقرع مجدّداً في زمنٍ باتت فيه البشرية على أعتاب تكرار الأخطاء ذاتها. إن استعادة هذا الشعار في عام 2025 ليست مجرد لفتة تاريخية، بل هي دعوة فلسفية لإعادة التفكير في العلاقة بين القوة والدمار، بين السلطة والعنف، بين الإنسان وقدرته على صنع مستقبله أو إفنائه. فلطالما كان التاريخ مرآةً للوعي الجمعي، حيث يعيد الماضي تشكيل الحاضر، ويضعنا أمام أسئلة وجودية: هل تعلمنا شيئاً من هيروشيما؟ هل السلام خيار حقيقي، أم مجرد هدنة موقتة في حرب لا تنتهي؟
معرض الملصقات الذي يقدمه متحف نابو يتضمن نماذج من تاريخ فني طويل يضيء على رؤى الفنانين الشباب الذين آثروا عدم الصمت وكرّسوا في فنونهم حرية التعبير عن غضبهم من فضائح حروب الزمن الفاشي الأسود (في إسبانيا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال وفيتنام) التي تفتقر إلى البعد الأخلاقي في ارتكاب جرائم إنسانية أشد هولاً، أسهمت في بعض محطاتها في ولادة ما يسمّى الثورة الثقافية المضادة لحرب فيتنام. بدأت معهم فنون الصورة الواقعية والكولاج والتجريد والرمز وتجليات الخروج عن المألوف. وكذلك ظهرت في الخمسينيات والستينيات موجات “الهيبيين” وموسيقى “الروك أند رول”، وأنتجت دور الأزياء ملابس جديدة دخلت فيها لوحة غرنيكا كرمز للحرية مع تصاعد موجات الثورة الطلابية في باريس عام 1968 التي سرعان ما استبدلت مع ازدهار سوق الأسطوانات الموسيقية، بشعار فرقة “البيتلز” (الحب والسلام) ضمن مهرجان “وودستوك “للموسيقى والفن الذي أقيم في عام 1969 تحت عنوان (3 أيام من السلام والموسيقى) في مزرعة ألبان بالقرب من قرية وايت ليك في بلدة ليثل في نيويورك.
أصبحت حركة الشباب المعارض في عقدي الستينيات والسبعينيات أكثر اتساعاً في بحثها عن طرق حياتية متملصة من مظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك من خلال الدعوة الى العودة الى سلام بساطة الحياة في الأرياف ورحاب الطبيعة ووجدت في المخدّرات والجنس وموسيقى الروك متنفساً للحبّ والحرية، فظهرت جماعات سياسية تناهض التسلح النووي وجماعات تناصر البيئة وجماعات دعم لكفاح شعوب العالم الثالث من أجل الحرية. كان الملصق وسيلتهم في حركة السلام وفي مجمل تظاهرات الاحتجاج على المشاركة في حرب فيتنام. صمّم شعارهم في الأصل كرمز عالمي لحملة نزع السلاح النووي في بريطانيا قبل أن يصبح رمزاً عالمياً للسلام.
أما الحركات الثقافية المضادة في ألمانيا في الثمانينيات، فقد كانت تعتبر أن الشرّ كل الشرّ آتٍ من التفكير السياسي يميناً كان أو يساراً، من أجل ذلك اتجهت الحركات الشبابية إلى هدم جدار برلين في عام 1989 وأسهمت في تنظيم مهرجان الحب (في العام ذاته في برلين) وهو أعظم حفل للموسيقى “التكنو” نظم في القرن العشرين تحت عنوان “الحب أقوى”.
المعروف أن موسيقى التكنو هي نوع موسيقى “إلكترونيك – دانس” ظهرت للمرة الأولى في ملاهي الديسكو في ميشيغان ديترويت في الولايات المتحدة عام 1980 واستُخدمت كثيراً في برلين بعد سقوط الجدار، حين كانت الفرق الموسيقية الشبابية تعزف الإيقاعات الإلكترونية الصاخبة والسريعة في نوادي الأقبية المظلمة والمباني المهدمة والمتداعية.
يلقي المعرض الأضواء على تداعيات حرب الإبادة في غزة، حيث أسهم التراث الوطني الفلسطيني بدور مهم في تعميق الانتماء للأرض والتاريخ وأصبحت الأغنية والموسيقى الشعبية الفلسطينية حاضرة في مجمل المسيرات السلمية وتظاهرات التضامن مع ضحايا غزة في شوارع المدن الأوروبية والأميركية وأصبحت “الأغنية” بمثابة بيان لنداءات عالية النبرة لوقف الحرب وهتافات جنباً إلى جنب مع فنون الاحتجاجات السلمية في أكثر من أربعين جامعة في الولايات المتحدة الأميركية وطرفاً في سجل النضال السلمي المتواصل الحامل معاني الاستنكار العالمي لتصاعد أرقام الدمار الشامل في غزة وجنوب لبنان.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار