المنافسة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية تمتد إلى الفضاء. وفي حين تتقدم بكين في سعيها للسيطرة على المجال الفضائي، فإنّ واشنطن تعتمد الغموض في كل ما يتعلق بعسكرة الفضاء.
تخطت المنازلة الصينية – الأميركية الجارية على امتداد غالبية القارات الخمس حدود الكرة الأرضية، حتى وصلت إلى الفضاء الخارجي، وما لبثت أن اتخذت طابع الصراع على النفوذ بين القوتين العظميين.
ومع تفاقم التهديدات المحتملة التي بات يشكلها برنامج بكين الفضائي العسكري على الأمن القومي للولايات المتحدة، والتي من المرجح أن تشتدّ وطأتها في الفترة المقبلة، دقّ المسؤولون في إدارة الرئيس جو بايدن جرس الإنذار من إمكان هيمنة جيش التحرير الشعبي الصيني في المستقبل القريب على ساحة المواجهة الجديدة الفائقة الأهمية، وخصوصاً أنّ قيادات رفيعة في البنتاغون تتحدث عن أدلة وفيرة لديها على “تحركات عسكرية صينية عدوانية على تلك الحدود أعلاه”، بحسب زعمهم.
وما زاد الطين بلة بالنسبة إلى واشنطن هو تسرّب معلومات عن أنّ الصينيين يطوّرون بهدوء، ولكن بإصرار، ترسانة من الأسلحة لتحدي أميركا؛ الإمبراطورية التي أرسلت أول رجل إلى سطح القمر، في إطار المنافسة التي كانت قائمة مع الاتحاد السوفياتي خلال فترة الحرب الباردة.
هل تراجع الاهتمام الأميركي بالفضاء في مقابل تقدم الصين؟
في الحقيقة، تدرك بكين أنّ الفضاء هو “الأرض المرتفعة” النهائية التي تسعى للسيطرة عليها. وما عزّز هذا التوجه هو أنّ الولايات المتحدة -رائدة الفضاء في مرحلة زمنية ما، نتيجة سيطرة وكالة “ناسا” على رحلات الفضاء المدنية- كانت بطيئة في إدراك طموحات الصين.
بعدها، جاء قرار واشنطن بإنهاء الرحلات الفضائية الأميركية التي اختتمت بهبوط المكوك “أتلانتس” في 21 تموز/يوليو 2011 بطاقمه لينهي آخر مهمة لبرنامج المكوك الفضاء الأميركي الذي استمر 30 عاماً، ويعطي مؤشراً واضحاً على أنّ الولايات المتحدة تفقد الاهتمام بالعالم الخارجي.
صحيح أنّ سلاح الجو الأميركي كان مسؤولاً عن الجوانب العسكرية للفضاء، لكن اهتمامه كان أقرب إلى الأرض، ولم يتفاعل بشكل كافٍ مع تحركات الصين السريعة. لذا، وفي محاولة لاستعادة الدور الريادي في الفضاء، أنشأ الرئيس السابق دونالد ترامب فرعاً جديداً في الجيش هو “قوة الفضاء”، للرد على التحدي الصيني، وكان ذلك أحد القرارات القوية القليلة التي اتخذتها رئاسته، غير أنّ ذلك لم يمنع الزحف الصيني المتسارع نحو الفضاء.
وبناءً على ذلك، ولتكوين فكرة عن حقيقة تقدُّم أي من القطبين الأميركي والصيني في المنافسة الفضائية القائمة، فلنستمع إلى ما خلص إليه أربعة خبراء أميركيين بارزين في هذا المجال، هم: الجنرال جيمس إتش ديكنسون (رئيس قيادة الفضاء الأميركية)، وجون إف بلامب (مساعد وزير الدفاع لسياسة الفضاء)، وإيزين أوزو-أوكورو (مساعد مدير سياسة الفضاء في مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا)، وسلفاتور “توري” برونو (الرئيس التنفيذي لشركة تصنيع الصواريخ “United Launch Alliance”).
هؤلاء الخبراء الذين كانوا يتحدثون جميعاً في منتدى “آسبن” الأمني الذي عُقد بين 18 و21 تموز/يوليو الحالي في مدينة كولورادو الأميركية، أدركوا أنّ الصين في الفضاء هي “تهديد السرعة”، كما جاء في العبارة الطنانة الجديدة التي قيلت في المنتدى.
ليس هذا فحسب، فقد أشار مساعد وزير الدفاع بلامب في معرض تعليقه على مزاحمة بكين لواشنطن إلى أنّ “الفضاء مفرط في التصنيف”، غير أنّ الغرابة تكمن في عدم تطرقه إلى أي خطط جديدة للولايات المتحدة. وبالمثل، فعل رئيس قيادة الفضاء الأميركية ديكنسون.
حجم الترسانة الفضائية الصينية
عملياً، اختبر الصينيون أول سلاح مضاد للأقمار الاصطناعية عام 2007. وعلى مدى العقد الماضي، عزّزت الصين برنامجها الفضائي، ليتمكن جيشها من استخدام الأقمار الاصطناعية لأغراض عسكرية. ولهذه الغاية، أنشأت بكين عام 2015 قوة الدعم الاستراتيجي، باعتبارها الفرع الخامس من جيشها، وهي تستهدف بشكل رئيس تطوير قدرات الحرب الفضائية والسيبرانية والإلكترونية ومراكمتها.
ومع مرور الزمن، أصبح الجيش الصيني يمتلك أقماراً اصطناعية يمكنها خطف مركبات فضائية أخرى (عن الطريق التحكم في حركتها)، ونقلها إلى مدار بعيد يُعرف باسم “منطقة المقبرة”. زد على ذلك أنّ الصين لديها أيضاً قدرات حرب إلكترونية واسعة تمكّنها من قطع الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية وشلّ أنظمة الرادار ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
وفي ما يتحدث القادة الصينيون عن بناء قواعد عسكرية على القمر لها وظائف متعددة (بحسب أقوال الباحثين الصينيين)، كاستخدام الأقمار الاصطناعية لشنّ هجمات إلكترونية في الفضاء، فلا يمكن التغاضي عن سلاح بالونات التجسس الصينية في الفضاء القريب.
أما الأكثر أهميةً، فهو قيام بكين بتطوير أسلحة “لايزر” لإبهار أجهزة الاستشعار، وربما تدمير مكوّنات الأقمار الاصطناعية، ثم إطلاقها أيضاً قمراً اصطناعياً تجريبياً مزوداً بتكنولوجيا الذراع الروبوتية التي يمكن استخدامها لمواجهة الأقمار الاصطناعية الأخرى.
في السياق نفسه، يقدّر مجتمع الاستخبارات الأميركي أنّ الصين “ربما تعتزم تطوير نظام مماثل لاستهداف الأقمار الاصطناعية حتى مدار الأرض المتزامن مع الأرض”.
واللافت للانتباه هنا هو ما كشفه المدير الرئيسي لسياسة الدفاع الفضائي والصاروخي في وزارة الدفاع الأميركية، ترافيس لانغستر، في منتدى المجلس الأطلسي حول استعداد الولايات المتحدة لطوارئ الفضاء في المستقبل، عن مضاعفة الصين عمليات إطلاق أقمارها الاصطناعية في المدار سنوياً، إذ بلغ العدد عام 2022 وحده نحو 150 قمراً صناعياً، ليصل إجمالي الأقمار الاصطناعية في الصين إلى أكثر من 650″ (فما بالك إذا زدنا عليهم أرقام 2023!).
ومن بين هذه السواتل العديدة نظم اتصالات متقدمة قادرة على نقل كميات كبيرة من البيانات، فضلاً عن تمتّعها بقدرات تحديد المواقع والملاحة والتوقيت، إضافةً إلى أنّها مزودة بتقنيات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المتطورة بشكل متزايد، أي “كل ما يمكن أن تجمعه الصين من الفضاء”.
وفي السياق ذاته، قال باحثون عسكريون صينيون إنّ الجيش الصيني سرّع من تطوير أسلحة الميكروويف (يعتمد هذا السلاح على توجيه نبضات “كهربائية مغناطيسية” ذات تردد عالٍ)، بعد استخدام أقمار “ستارلينك” الاصطناعية التابعة لشركة “سبيس إكس” بشكل فعال ضد روسيا في أوكرانيا.
ولهذه الغاية، قام علماء الجيش الصيني ببناء سلاح، هو عبارة عن مصدر طاقة مضغوط يمكن أن يقلّل بشكل كبير من حجم سلاح الميكروويف عالي الطاقة. وبالتالي، يمكن للجهاز توليد كهرباء تصل إلى 10 جيجاوات في الطاقة بمعدل 10 نبضات في الثانية، وهي طاقة مكثفة كافية لإنتاج أشعة ميكروويف قوية.
ماذا عن العقيدة الفضائية الأميركية؟
عملياً، لا تمتلك القوة الفضائية الأميركية حتى الآن عقيدة توضح مهامها والقدرات المطلوبة لتحقيقها. المنشور العقائدي الوحيد الخاص بالخدمة الذي وقّعه قائد القوة الفضائية السابق الجنرال جاي ريموند عام 2020 هو “Space Capstone”، الذي عرّفه بأنّه “صياغة أولى لنظرية مستقلة للقوة الفضائية”.
المفاجئ في الأمر أنّ وزارة الدفاع الأميركية اعترفت علناً بـ”سلاح فضاء مضاد” واحد فقط، هو نظام الاتصالات المضاد الأرضي، للتشويش على أقمار اتصالات العدو.
على الرغم من ذلك، تعتمد واشنطن الغموض في كل ما يتعلق بعسكرة الفضاء. وعندما نشر البنتاغون في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 “مراجعة استراتيجية فضائية” مفصّلة تناقش التهديد الصيني والإجراءت الواجب اتخاذها كان مضمونها سريّاً، وهو ما خيّب آمال الرأي العام والخبراء الأميركيين الذين تمنوا أن يستجيب هؤلاء المسؤولون لنصيحة الجنرال جون هايتن عام 2021، وهو نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة في ذلك الوقت، ومفادها: “الردع لا يحدث في العالم السري”.
أما التأكيد الوحيد، فهو أنّ الولايات المتحدة تبني أسلحة لردع الصين في الفضاء. برز ذلك في تعليق وزير القوات الجوية فرانك كيندال في آذار/مارس الماضي، إذ شرح حينها خططه لإنفاق الأموال على “القدرات الهجومية” في السنة المالية 2024، بالقول: “هناك قدرات قتل صعب وقتل ناعم، إذا صحّ التعبير، نقوم بتمويلها، لكنني لست متأكداً من أنّني أستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك”.
في المحصلة، لا يزال أمام القوة الفضائية الأميركية طريق طويل من أجل أن توضح خططها القتالية للجمهور الأميركي والحلفاء، وكذلك للأعداء المحتملين. وإلى ذلك الحين، يتخوّف الاستراتيجيون الأميركيون من أن تكون الصين قد أحكمت سيطرتها الفعلية على الفضاء.
سيرياهوم نيوز1-الميادين