د. حامد أبو العز
شهدت الساحة الدبلوماسية في الآونة الأخيرة تطوراً لافتاً في العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، تمثل في قرار إماراتي غير مسبوق بطرد السفير الإسرائيلي من أبوظبي. وجاء هذا القرار بعد فترة من الجدل الداخلي في الأوساط الرسمية الإماراتية حول تصرفات السفير الإسرائيلي، يوسي شيلي، والتي وُصفت بأنها غير لائقة ومخالفة للأعراف الدبلوماسية. ووفق ما أعلنته القناة الإسرائيلية الثانية عشرة، فإن استقالة السفير ستتم قريباً، إلا أن خلفيات هذا القرار تحمل في طياتها دلالات أعمق تتجاوز الحدث في ظاهره، إذ تكشف عن مدى خطورة التطبيع مع كيان لا يعترف بالحدود الأخلاقية والعادات والتقاليد للبلاد المضيف.
بحسب التسريبات، فإن استياء القيادة الإماراتية لم يكن وليد لحظة، بل جاء نتيجة تراكم سلسلة من السلوكيات التي صدرت عن السفير خلال فترة وجوده في أبوظبي. فقد أفادت تقارير أمنية إماراتية أن السفير شوهد مراراً في عدد من الحانات الفاخرة في العاصمة، وهو في حالة سكر شديد، محاطاً بعدد من النساء الإسرائيليات. هذه المشاهد، التي تكررت أكثر من مرة، لم تكن مجرد تصرفات شخصية معزولة، بل اعتبرتها السلطات الإماراتية خرقاً واضحاً للمعايير التي تحكم سلوك الممثلين الدبلوماسيين، خصوصاً في بلد يحرص على الحفاظ على صورة الانضباط والاحترام في الفضاء العام.
الإمارات، التي انفتحت خلال السنوات الأخيرة على علاقات رسمية مع إسرائيل ضمن إطار “اتفاقيات إبراهيم”، لم تنل من هذا الكيان سوى المشكلات الثقافية والأمنية وزعزعة الاستقرار. وبناء على ذلك، فإن ما بدر من السفير لم يكن مقبولاً بأي شكل من الأشكال، ليس فقط من منظور أخلاقي، بل أيضاً من منظور أمني وسياسي. فالمشهد الذي تصفه التقارير، كان كفيلاً بإثارة تساؤلات جدية داخل أروقة الحكم حول مدى جدية الطرف الآخر في احترام أسس التعامل الدبلوماسي.
الأمر لم يتوقف عند مجرد استياء داخلي، بل وصل إلى مستوى التواصل المباشر بين القيادة الإماراتية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ووفق ما تردد، فإن الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بعث برسالة مباشرة إلى نتنياهو يحتج فيها على سلوك السفير الإسرائيلي. هذه الرسالة تحمل بين طياتها معنى مهم هو أن الصبر على تجاوزات كهذه له حدود، مهما كان الطرف الذي تصدر عنه.
بعيداً عن تفاصيل الحادثة التي فجّرت قرار طرد السفير الإسرائيلي، فإن ما جرى يفتح الباب واسعاً للنقاش حول النتائج الفعلية لاتفاقية التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني. فمنذ توقيع “اتفاقيات إبراهيم” قبل أعوام، رُوِّج لهذه الخطوة على أنها بداية عهد جديد من التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي، يُفترض أن يعود بالنفع على الطرفين. لكن التجربة الإماراتية أظهرت، وبشكل متسارع، أن هذا الانفتاح على الكيان الصهيوني لم يكن خالياً من الأثمان الباهظة، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل أيضاً على الصعيد الأمني والاجتماعي.
الحادثة الأخيرة ليست سوى حلقة في سلسلة من الإشكالات التي برزت منذ بدء التطبيع، إذ تكررت الأخبار عن سلوكيات غير منضبطة من قبل أفراد وشخصيات مرتبطة بالكيان، إلى جانب تزايد شعور عام بالاستياء الشعبي من نتائج هذا الانخراط الدبلوماسي. فقد كانت التوقعات في البداية أن العلاقات الجديدة ستفتح آفاقاً واسعة للاستثمار ونقل التكنولوجيا، لكن ما ظهر على أرض الواقع هو أن التطبيع منح الكيان الصهيوني نافذة جديدة للتغلغل في النسيج الاقتصادي والأمني للدولة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقلالية والسيادة.
إلى جانب ذلك، فإن الكيان الصهيوني، بطبيعته الاستعمارية والتوسعية، لم يُعرف عنه يوماً احترامه العميق لشركائه أو التزامه التام بروح الاتفاقيات. وهذا ما انعكس في طريقة تعامله مع الجانب الإماراتي في أكثر من ملف، حيث بدا جلياً أن المصلحة الإسرائيلية تتقدم على أي اعتبار آخر، حتى وإن كان ذلك على حساب صورة الطرف الآخر أو استقراره الداخلي. في هذا السياق، يمكن القول إن حادثة السفير لم تكن سوى عرض من أعراض مشكلة أعمق، تتمثل في التباين الجذري في القيم والممارسات بين الطرفين.
الأهم من ذلك، أن ما حدث في أبوظبي يقدم نموذجاً عملياً لبقية الدول العربية والإسلامية، يؤكد أن الانفتاح على الكيان الصهيوني لا يمر دون تبعات سلبية. بل على العكس، فإن التطبيع، الذي يُسوَّق أحياناً كخيار “براغماتي”، قد يتحول إلى عبء سياسي وأمني وأخلاقي، كما حدث في الإمارات. فبدلاً من أن تكون العلاقات الجديدة جسراً للتفاهم، تحولت إلى مصدر للتوتر وإحراج للدولة المضيفة على الساحة الدولية.
هذا الدرس يجب أن يُقرأ بعناية في العواصم العربية التي ما تزال مترددة أو متفائلة بإمكانية التطبيع. إذ إن تجربة الإمارات أثبتت أن بناء علاقات رسمية مع الكيان، في ظل استمرار احتلاله للأراضي الفلسطينية ورفضه الالتزام بالقرارات الدولية، هو رهان محفوف بالمخاطر. فالكيان الذي لا يحترم القوانين الدولية، ولا يتورع عن انتهاك أبسط حقوق الشعوب، من غير المرجح أن يحترم القيم والأعراف الدبلوماسية عندما تتعارض مع مصالحه أو أهواء ممثليه.
إن قرار طرد السفير، رغم حساسيته، يعيد التأكيد على أن الحفاظ على السيادة والكرامة الوطنية يظل أولوية تتقدم على أي اتفاقيات أو مصالح اقتصادية آنية. وهذا الموقف قد يشكل منعطفاً مهماً في العلاقة بين الطرفين، وربما يدفع الإمارات إلى إعادة تقييم شاملة لمخرجات التطبيع، خاصة إذا استمرت المشكلات وتكررت التجاوزات.
في النهاية، يمكن القول إن ما حدث ليس مجرد أزمة دبلوماسية عابرة، بل هو مؤشر على هشاشة الأساس الذي بُنيت عليه العلاقات بين الإمارات والكيان الصهيوني. والأهم أنه يضع أمام الدول العربية والإسلامية مثالاً حيّاً على أن التطبيع، بعيداً عن الشعارات البراقة، قد لا يجلب سوى المشاكل، وأن رفضه قد يكون الموقف الأكثر حكمة وصوناً للسيادة والكرامة الوطنية.
باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم