حسن نافعة
يعد اللقاء المباشر بين جو بايدن وشي جين بينغ من أهم اللقاءات الدولية في الآونة الأخيرة، ويرجّح أن يكون له تأثير واضح في مسار النظام الدولي في المرحلة المقبلة.
حرص الرئيسان، الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، على أن يلتقيا على هامش قمة مجموعة العشرين التي استضافتها إندونيسيا هذا العام، وكانت قد جرت بينهما اتصالات عدة في العامين الماضيين، لكنها جرت جميعها عبر الهاتف أو باستخدام تقنيات التواصل عن بعد. لذا يعد اللقاء المباشر الذي جرى في بالي يوم الاثنين الماضي بين بايدن وشي من أهم اللقاءات الدولية التي جرت في الآونة الأخيرة، ثم يرجح أن يكون له تأثير واضح في مسار النظام الدولي في المرحلة المقبلة، وذلك لسببين رئيسيين:
1- أنه جمع بين قيادتي أقوى وأهم دولتين في عالمنا المعاصر، إحداهما تسعى لإدامة هيمنتها المنفردة على النظام الدولي أطول فترة ممكنة، فيما تسعى الأخرى لوضع حد لهذه الهيمنة وضمان الانتقال السلس إلى نظام متعدد القطبية.
2- أنه جرى في وقت تدخل فيه الحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية في مرحلة جديدة قد تتسبب بإشعال حرب عالمية ثالثة يحتمل أن يستخدم فيها السلاح النووي. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يتناول اللقاء بحث كل الملفات الحساسة، سواء تلك التي تخص العلاقات الثنائية بين البلدين، أو تلك التي تخص التحولات الجارية على الصعيد العالمي، خصوصاً ما يتصل منها بتبعات الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، حيث تسعى الولايات المتحدة جاهدة لفصل عرى التحالف القائم حالياً بين الصين وروسيا الاتحادية. لذا لم يكن مستغرباً أن يستمر اللقاء 3 ساعات متواصلة.
لا تخفي الولايات المتحدة انزعاجها الشديد من مستوى التقدم الذي حققته الصين طوال العقود الأربعة الماضية. ولأن الصين تدرك جيداً أن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لعرقلة هذا التقدم، على أمل منعها من دخول حلبة المنافسة على قيادة النظام الدولي، فمن الطبيعي أن تتقاطع الرؤى وأن تتصادم الأهداف. غير أن القيادتين الأميركية والصينية تدركان في الوقت نفسه أن العلاقات القائمة بين بلديهما، خصوصاً في ميادين التجارة والاقتصاد والمال، وصلت إلى درجة كبيرة من التداخل والتشابك والاعتماد المتبادل، ثم فإن أي محاولة لفصمها ستصيب كلتا الدولتين بأضرار كبيرة يستحيل على أي منهما تحمل عواقبها، وهو ما دفع بايدن إلى الإدلاء بتصريح عقب لقاء بالي، أكد فيه “التزامه الحفاظ على بقاء خطوط الاتصال مفتوحة بين البلدين على المستويين الشخصي والحكومي”، وعبر فيه عن قناعته بأن “من واجب حكومتي البلدين إدارة خلافاتهما، والحيلولة دون تحول المنافسة إلى صراع، وإيجاد سبل للعمل المشترك بشأن القضايا العالمية الملحة التي تتطلب تعاوننا المتبادل”.
كما دفع الخارجية الصينية إلى إصدار بيان أشارت فيه إلى أن الرئيس جين بينغ أكد لنظيره الأميركي “أن الصين والولايات المتحدة تتقاسمان كثيراً من المصالح المشتركة، وأن بكين لا تسعى لتحدي الولايات المتحدة أو لتغيير النظام الدولي القائم، ودعاه إلى أن يحترم كل منهما الآخر”.
لا تستطيع هذه اللغة الدبلوماسية الناعمة طمس عمق الخلافات القائمة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية حول قضايا استراتيجية عديدة. فحتى بافتراض أن يؤدي حرص الولايات المتحدة على إضعاف العلاقة بين روسيا والصين، من ناحية، وحرص الصين على عدم القطيعة مع الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، إلى دفع البلدين نحو تقديم تنازلات متبادلة في بعض الملفات، كملف حقوق الإنسان وملفات التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا، إلا أن هناك ملفات أخرى يستحيل على أي منهما تقديم تنازلات في شأنها، في مقدّمها الملف الخاص بوضع جزيرة تايوان.
فمن الصعب تصور أن تتخلى الصين عن سياسة “صين واحدة” في أي ظرف من الظروف، ومن المؤكد أنها لن تسمح مطلقاً باستقلال تايوان، ولن تسامح أي دولة تشجّع تايوان عليه، حتى ولو كانت الولايات المتحدة الأميركية.
ومن الصعب أيضاً تصوّر أن تتخلى الولايات المتحدة عن سياستها الراهنة تجاه تايوان، وهي سياسة تتسم بالغموض والتناقض والنفاق، أو لأن تتبنى سياسة جديدة من شأنها تسهيل مهمة الصين في إعادة بسط سيادتها عليها، ولو تحت شعار “صين واحدة ونظامان”.
لذا يرجح أن تواصل الولايات المتحدة سياستها الراهنة الرامية إلى وضع العقبات والعراقيل أمام الخطط والمساعي الصينية الهادفة إلى ضم تايوان، وهو ما سيؤدي حتماً إلى تفجر صراع مفتوح بينهما آجلاً أو عاجلاً.
لتوضيح هذه النقطة، ربما يكون من المفيد هنا إعادة تذكير القارئ بمجموعة من الحقائق التي تؤكد أن تايوان صناعة وصنيعة أميركية بامتياز، ومن ثم فلن تتخلى الولايات المتحدة عنها تحت أي ظرف من الظروف. فالأسطول الأميركي هو الذي حمى حكومة تشان كي شيك بعد هروبها إلى تايبيه عقب استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة في بكين عام 1949، ولولاه لما وجدت مشكلة تايوان أصلاً.
ومن المعروف أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تصرّ على عدم الاعتراف بحكومة الصين الشعبية وحسب، بل أصرت على أن تكون حكومة تايبيه ممثّلاً شرعياً وحيداً للصين، ما أدى إلى تمكينها من احتلال مقعد الصين في جميع المنظمات الدولية، بما في ذلك مقعدها الدائم في مجلس الأمن، ضاربة بكل الأعراف والقوانين الدولية عرض الحائط.
وفي عام 1954 أبرمت الولايات المتحدة مع حكومة تايوان اتفاقية للأمن المتبادل، وبموجبها أصبحت تايوان تحت الحماية الأميركية رسمياً، والتزمت الولايات المتحدة الدفاع عنها إن تعرضت لأي عدوان خارجي!!. ولولا الصراع السياسي والمذهبي الذي اندلع بين الصين والاتحاد السوفياتي في مطلع ستينيات القرن الماضي، أي في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لما سعت الولايات المتحدة مطلقاً بالتقارب مع الصين الشعبية، وذلك من خلال زيارة كيسنجر عام 1971 ثم زيارة نيكسون عام 1972. إذ لم يؤدِ هذا التقارب إلى اعتراف الولايات المتحدة بالصين الشعبية وتتبادل العلاقات الدبلومسية معها وحسب، اعتباراً من عام 1979، وإنما أدى إلى إقرارها بمبدأ “صين واحدة”.
ومع ذلك، فقد اتّسمت سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان بكثير من الغموض والتناقض، خصوصاً حين رأت أن الاعتراف بصين واحدة وبأحقية حكومة بكين في تمثيل الصين في المحافل الدولية ولدى الدول الأخرى، لا يعني بالضرورة الاعتراف بسيادة الصين على تايوان، ومن ثم يحق للولايات المتحدة أن تقيم مع تايوان علاقات غير رسمية.
وهنا يلاحظ أن علاقة الولايات المتحدة بتايوان، التي صدر في شأن تنظيمها قانون خاص في عهد كارتر عام 1979 Taiwan Relation Act، بدت خجولة طوال الفترة الممتدة حتى نهاية الحرب الباردة، واقتصرت على العلاقات التجارية والثقافية ولم تشمل أي مسائل سياسية أو أمنية. فلم تقم الولايات المتحدة في تلك الفترة بإبرام أي صفقات لتسليح تايوان ولم تقدم أي شخصيات سياسية عالية المستوى على زيارة تايوان.
لكن، ما إن تفكّك الاتحاد السوفياتي وسقط حتى شعرت الولايات المتحدة بأن الطريق أمامها أصبح مفتوحاً للهيمنة المنفردة على النظام الدولي، وأن علاقتها بالصين الشعبية لم يعد لها الأهمية نفسها التي كانت لها في مرحلة الحرب الباردة، وأن الأوضاع الجيوسياسية المستجدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة تستدعي التحسب، ليس لاحتمال أن تصبح الصين منافساً قوياً لها وحسب، خصوصاً في ظل انطلاقتها الاقتصادية الكبرى، وإنما أيضاً لاحتمال حدوث تقارب صيني روسي قد يشكل تحدياً لهيمنتها المنفردة على النظام الدولي مستقبلاً، ما يفرض عليها ضرورة تقوية علاقاتها بتايوان والتعامل معها باعتبارها أحد أهم حلفائها الموثوق بهم في آسيا.
وهكذا راحت زيارات المسؤولين الأميركيين الكبار لتايوان تتواتر، أهمها زيارة نيوت غينغريتش رئيس مجلس النواب عام 1997، كما راحت أيضاً صفقات السلاح مع تايوان تتوالى بعد ذلك.
في المقابل، لم يؤدِّ التقارب الصيني الأميركي إلى أيّ تغيير في سياسة الصين تجاه تايوان. فقد ظلت الصين تعد تايوان جزءاً من صين واحدة غير قابلة للتجزئة، وبالتالي ترفض استقلالها رفضاً قاطعاً، ومن هنا إصرارها على رفع شعار “صين واحدة” ونجحت في فرضه على كل المحافل الدولية. وقد استطاعت الصين أن تلحق بالولايات المتحدة هزيمة دبلوماسية كبيرة، بمجرد أن وطئت أقدام نيكسون أراضيها، حين نجحت في طرد ممثلي حكومة تايوان من الأمم المتحدة، ومن كل الوكالات المتخصصة المرتبطة بها.
صحيح أن الصين تبنت سياسة مرنة وصبورة تجاه تايوان، ولم تتعجل ضمّها إليها، لكنها لم تتخلّ مطلقاً عن إصرارها التامّ على تحقيق هذا الهدف، وتؤكد كل يوم أنها ترفض استقلال تايوان وترفض التعاون مع أي دولة تدعم هذا الاستقلال، ويلاحظ أن رد فعل الصين على زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان في الثاني من آب/أغسطس الماضي، كان عنيفاً جداً، خصوصاً إذا ما قورن برد فعلها إزاء زيارة نيوت غينغريتش للجزيرة عام 1997.
وإن دل ذلك على شيء فإنما على أن الصين لم تعد الآن مستعدة لتقبل ما كانت مضطرة إلى قبوله في الماضي، وأنها لا تزال مصرة على عودة تايوان إلى حضن الوطن الأم، سواء بالوسائل السلمية أو باستخدام القوة إن لزم الأمر.
لذا يرجح أن تظل شكوك الصين عميقة في نيات الولايات المتحدة تجاهها، وهي شكوك لن تتبدد إلا إذا غيّرت الولايات المتحدة سياستها تجاه تايوان.
سيرياهوم نيوز 1-الميادين