تحقيق: هيثم يحيى محمد
بات معمل اسمنت طرطوس بؤرة تلوث كبيرة أكثر من أي وقت مضى بعد ان انتهى عمره الزمني ووصل وضعه الفني لأسوأ حالاته وبعد أن ازداد تلويثه لكل مكونات البيئة المحيطة به وما بعدها من خلال الغبار الكثيف المتصاعد بشكل دائم من كافة نقاط الانتاج بشكل عام ومن المدخنتين الرئيسيتين بشكل خاص، ونتيجة ذلك ازدادت الأمراض السرطانية وغير السرطانية بين المواطنين وتحولت حياة الساكنين في حصين البحر والقرى المحيطة بالمعمل الى جحيم ومن يشكك في ذلك ندعوه لزيارة اي بيت في أي وقت يريده بهذه القرى ليلمس مؤشرات هذا (الجحيم) بنفسه.
مع بعض الفعاليات
وخلال جولة لـ(الثورة) في حصين البحر القرية الكبيرة الأكثر تضرراً يقول المهندس علي استنبولي: أنه بمراجعة بسيطة ومعرفة حقيقية بموازنة المعمل يتبين ان ما يصرف عليه من نفقات لا يتناسب مع إنتاجه وبالتالي ومع الاخذ بعين الاعتبار الأضرار الكارثية أرى ان تحويله إلى أي شيء آخر هو أفضل بكثير، فالعمر الافتراضي انتهى منذ ١٠ سنوات والنتيجة ضرر كبير وسعر اسمنت مرتفع وغير متوفر مع العلم ان طاقته الانتاجية أكثر من ٥٠٠٠ طن يومياً، فكم ينتج وكم يستهلك وفِي ضوء ذلك ما هي الجدوى الاقتصادية منه؟ وختم بالقول: لا بد من قرار ينهي هذه الكارثة.
أما نوار الشعار رئيس المركز الثقافي في الحصين فيقول: بكل أسف أصبحت قريتي حصين البحر والقرى المحيطة بمعمل الإسمنت عبارة عن منطقة موبوءة بكل ما للكلمة من معنى.. فالسرطانات والجلطات القلبية والدماغية وأمراض الربو والرئة والقلب والأمراض الجلدية تخيم على المكان.. والجو أصبح ملوثاً بالكامل.. حتى الشجر والمزروعات لم يسلموا من هذه الكارثة البيئية ولكم أن تشاهدوا بأم العين الأشجار التي فقدت لونها الأخضر وأصبحت تكتسي لون الإسمنت.. وهي بالمناسبة صورة مصغرة عن رئات أهالي المنطقة..
وأضاف: وبالمناسبة تعتبر النساء في منطقتنا أكثر المتضررات والمتعبات من هذا التلوث حيث يقمن أكثر من ٤ أو ٥ مرات يومياً بتنظيف الشرفات والجدران من الإسمنت الأسود المتطاير..
وللأسف طقوس كثيرة جميلة بتنا نفتقدها..كالرياضة الصباحية والمسائية والسبب الهواء الملوث.. حتى فنجان القهوة على شرفاتنا أصبح مجرد ذكرى..
أخيراً اقتبس من ابن قريتي المبدع سعد الله ونوس لأقول: بدل أن نكون محكومين بالأمل كما قال، أصبحنا محكومين بالمعمل!
ابراهيم ديوب رئيس مجلس بلدية حصين البحر يؤكد أن مشكلة الغبار المتصاعد من المعمل مشكلة كبيرة جداً إذ إن أضراره لامست البشر والحجر وفي العام الماضي والعام الحالي زادت كمية الغبار بشكل غير مقبول نهائياً، وزادت الأمراض الصدرية والسرطانية في القرية، والشركة حالياً تحاول استملاك البلوك الثالث وقد حضرنا عدة اجتماعات مع قيادة الفرع حول هذا الموضوع وهناك إصرار من الشركة للاستملاك إذاً لا نيَّة لدى الشركة لايقاف المعمل أو نقله..!!
وتابع ديوب بقوله إن الحل الوحيد أمام هذا الأمر تركيب فلاتر جديدة لأنه تبين عدم فعالية الفلاتر القديمة، وهذا يجب أن يتم بأقصى ما يمكن من السرعة لأن وضع الغبار لا يطاق، والأهالي مستاؤون كثيراً من هذا الواقع المفروض على كل تفصيل من تفاصيل حياتهم اليومية.
صحة طرطوس
بعد ذلك توجهنا لمديرية صحة طرطوس والتقينا الدكتور عيسى حسن معاون المدير وسألناه عن ملاحظاته كمواطن من حصين البحر وكطبيب وكمعاون مدير صحة على التلوث الذي يسببه غبار معمل اسمنت طرطوس على البشر وصحتهم وعلى الشجر والبيئة المحيطة بكل مكوناتها وما مقترحاته بهذا الخصوص؟
وجواباً على ما تقدم يقول الدكتور حسن: في أي مشروع حيوي تدخل فيه دراسة الجدوى الاقتصادية وميزان السلبيات والإيجابيات وحيث لا شيء أهم من صحة الفرد في المجتمع ولاسيما الطفل وحتى في دراسات الجدوى الاقتصادية، نجد أن ما تخسره الدولة على العلاج والاستشفاء من الأمراض التي يسببها معمل الإسمنت مثل: (سرطانات الرئة _ آفات الرئة التليفية _ الآفات الانسدادية والربوية والتي تنتهي بقصور قلبي تنفسي) يفوق عائدات الإنتاج.
وأضاف: تنتشر معامل الإسمنت في كل دول العالم ولكن في حال قربها من أي تجمع سكاني أو غطاء نباتي تقاس نسبة التلوث وتركب تجهيزات عدم أو تخفيف الانبعاثات (فلاتر) وتكاد تنعدم حتى في جوار المعمل وواضح للعيان مدى تأثير المعمل على صحة الناس وعلى الشجر والحجر في ظل غياب الجدية في التعامل مع الانبعاثات.. ويجب التفكير جدياً في إغلاقه بأسرع وقت ممكن.. وأنا وعائلتي غادرنا القرية (حصين البحر) لوجود إصابة ربوية وأخرى تحسسية ما قبل ربوية في العائلة.
مع ادارة الشركة
لمتابعة شكاوى الناس ومعرفة وجهة نظر شركة اسمنت طرطوس التقينا مديرها العام الجديد المهندس هلال عمران الذي تسلم مهمته منذ نحو ثلاثة أشهر وناقشناه بكل معطيات الواقع السيئ الذي أشرنا اليه وقد شاطرنا الرأي في معظم ما طرحناه وأكد أنه يعمل لمعالجة الكثير من الأسباب التي أدت لهذا الواقع ثم أجابنا على الأسئلة المتعلقة بالتلوث والوضع البيئي والحلول المنتظرة.
فعن الأسباب التي تؤدي الى تصاعد الغبار من الشركة ومداخلها ومن ثم انتشاره في البيئة المحيطة على مدار الساعة والإجراءات المتخذة من قبل الشركة للمعالج قال مدير عام الشركة إن الفلاتر الكهربائية الحالية جيدة من الناحية الفنية وتتم عليها أعمال الصيانة الفنية الدورية والطارئة بشكل مستمر ودائم من قبل مهندسي وفنيي شركتنا, وقد تم تعديل وتركيب هذه المنظومة ووضعها في الخدمة منذ بداية عام 2000 ولكن تحدث حالات فصل طارئ ومتكرر بسبب عدة أسباب فنية تتعلق بنظام عمل هذه الفلاتر الذي يقوم على عدة عوامل منها استقرار وجودة المواد الأولية القادمة من المقالع، واستقرار التيار الكهربائي ونوعية الفيول المستخدم.
وعند حدوث أي خلل في البارامترات (نظام التشغيل) يؤدي ذلك إلى فصل الفلتر بشكل قسري (منعاً لحدوث انفجار داخل جسم الفلتر) أو انخفاض في مستوى أداء عمل الفلاتر.
وأضاف عمران: إن أهم العوامل التي تؤدي إلى توقف الفلتر الكهربائي كما اشرنا سابقاً هي جودة ونوعية المواد القادمة من المقالع من حيث النقاوة والرطوبة، علماً ان البلوك رقم /2/ في المقالع قليل النقاوة وكثير الشوائب وهذا يسبب خللا في الخلطة واستقرارها كيميائياً وحرارياً ويؤدي إلى حدوث ظاهرة السباركات ( فصل لحظي لمحولات التوتر العالي للفلتر وزيادة نسبة غاز CO) الذي يؤدي بدوره إلى فصل محولات التوتر العالي للفلتر الكهربائي منعاً لحدوث انفجار داخل حجُر الفلتر، وبالتالي تصاعد غبار كثيف من المداخن, وإعادة تشغيل هذه المحولات يحتاج في كل مرة إلى نصف ساعة للتخلص من غاز ((CO)) ضمن الدارة داخل الفلتر لتأمين لتشغيل آمن للفلتر.
كما أننا حالياً باشرنا بتنفيذ برامج صيانات وعمرات جزئية وشاملة لخطوط الإنتاج ومن ضمنها الفلاتر والمرسبات الكهربائية والقماشية، علماً أن تحسين الوضع البيئي والوصول إلى بيئة نظيفة يقع على عاتق شركة مجموعة فرعون سنداً للعقد رقم 26/2008 وملاحقه المبرم معها لتطوير وإعادة تأهيل الخطوط الإنتاجية وتحسين البيئة في شركة طرطوس لصناعة الاسمنت ومواد البناء من خلال تقديم المعدات والتجهيزات اللازمة لذلك.
وعن المقترحات والحلول للوصول إلى بيئة نظيفة قال المدير العام:
لابد من السعي لدى الجهات الوصائية للحصول على الموافقات اللازمة بأسرع وقت ممكن لاستملاك البلوك رقم /3/ الذي يؤدي استملاكه إلى الحصول على مواد أكثر نقاوة وأقل شوائب وإلى تحسين نوعية المواد الأولية وتقليل رطوبتها والحصول على خلطة متجانسة وبالتالي استقرار الدارة الغازية وتجنب حدوث الفصل الطارىء والمتكرر، مع الإشارة إلى أن شركتنا تتابع موضوع استملاك البلوك الثالث من خلال تمثيلها في اللجنة المشكلة لهذه الغاية.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن شركة إسمنت طرطوس قامت بدراسة وإعداد دفتر شروط فنية لاستبدال منظومة الفلاتر الكهربائية الحالية بمنظومة أخرى قماشية كون الفلاتر القماشية لا تخضع لحساسية وظروف التشغيل مقارنة بظروف تشغيل الفلتر الكهربائي ولا تتأثر بغاز (co) أو الأوكسجين، السباركات – أعطال الدارة والماء والتزرير والأعطال الأخرى ونسبة التصفية في الفلاتر القماشية تصل إلى 99% وصيانتها سهلة وعدم استخدامها للماء في عملها واستهلاكها للكهرباء أقل بكثير من الفلاتر الكهربائية ويمكن الاستفادة من الهيكل الحالي لجسم الفلتر المستثمر حالياً أو أن تتم إضافة فلتر قماشي على مخرج مروحة الغاز النهائي لتصفية ما تبقى من الغبار في حالات فصل الفلتر الكهربائي كلياً أو جزئياً.
وأكد عمران انه سيتم تحميل شركة مجموعة فرعون كامل قيمة النفقات والتكاليف العائدة واللازمة لتنفيذ هذا المشروع كونه من التزاماتها وفق نصوص العقد المبرم معها وقد تم إعلام الجهات الوصائية وشركة مجموعة فرعون بهذه الدراسة والإجراءات المتخذة لهذه الغاية.
وعن امكانية إلغاء المعمل من هذا المكان واستثمار المساحات الشاسعة التابعة له في السياحة والزراعة والسكن والتجارة وغيرها قال مثل هذا القرار ليس قرار الشركة.
وبخصوص الإجراءات المتخذة حالياً من قبل الشركة للحد من التلوث ريثما يتم الوصول الى حلول جذرية للواقع القائم قال المدير العام:
الشركة حالياً قيد إجراء صيانات شاملة لكامل الجملة الميكانيكية للأفران الدوارة والدارات الملحقة بها بغية تحقيق كتامات تامة للدارات الإنتاجية واستقرار في عمل الأفران الدوارة ورفع الطاقة الإنتاجية, كما سيتم في الوقت نفسه إجراء صيانات شاملة لكامل منشآت وتجهيزات الفلاتر القماشية والكهربائية على الخطوط الإنتاجية الأربعة, الأمر الذي سيؤدي إلى تحسين أداء منظومة الفلاتر بشكل ملحوظ وجيد بعد الانتهاء من هذه الصيانات.
لنا كلمة
في ضوء ما تقدم من معطيات اجتماعية وصحية وفنية واقتصادية يعكسها واقع هذا المعمل وأضراره نرى ضرورة اتخاذ القرار الحكومي اللازم الذي يصب في مصلحة الدولة والمواطن بعيداً عن العواطف والهروب الى الأمام كما كان يحصل في السابق.