عبير بسام
في السابع من هذا الشهر أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أنه قد يوجه دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لزيارة تركيا في أية لحظة. وأمل السيد أردوغان أن تعود العلاقات السورية – التركية إلى ما كانت عليه في الماضي. كلام أشعل الإعلام وابتدأت التكهنات بقرب اللقاء وأن الأمور ستحل وأن كلّ شيء سيكون على ما يرام. ورئيس تركيا يقول هذا الكلام دون الإشارة للقرار 2254 المتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سورية، ويتجاهل أيضًا الحيثيات التي حددتها سورية، والتي يمكن البناء عليها لاتّخاذ قرار بلقاء الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي أردوغان، وهي محدّدات إيديولوجية بالنسبة لسورية ولا يمكن تجاوزها. وفي الحقيقة كلام أردوغان يشبه الوضعية التي في إطارها أطلق التصريح الأردوغاني.
باعتبار المكان والزمان، فقد أطلق أردوغان تصريحه وهو عائد من زيارة لألمانيا حضر خلالها مباراة لكرة القدم ما بين منتخبي تركيا وهولندا، خسرت فيها تركيا وخرجت من السباق إلى الدور النصف نهائي في الدوري الأوروبي، كما تخسر في كلّ يوم أهميتها كدولة استراتيجية تقع ما بين إيران وروسيا وعلى حدود أهم دولتين في المشرق العربي هما العراق وسورية، وتتصل بأوروبا عبر ممرين بحريين استراتيجيين، هما مضيقا البوسفور والدردنيل. وهذا ليس مستغربًا، فتركيا تتراجع مكانتها منذ إعلان ضم فلندا إلى حلف الناتو، وهو ما كانت تعارضه بشدة إلى أن قبضت ثمنًا، وهو استثمارات أميركية في تركيا لم تر النور منذ العام 2023 وحتّى اليوم. ومع ذلك ستبقى تركيا بشكل أو بآخر خارج حسابات الأوروبيين والأميركيين، إلا إذا تعلق الأمر بالناتو والقتال في صفوفه، فعندها فقط ينظر أعضاء الناتو إلى تركيا كقوة بشرية لا يمكن الاستغناء عنها، كما كان يُعتمد عليها في بعض التخوم العسكرية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكن اليوم لا جدوى منها.
هذا هو واقع تركيا السياسي اليوم، فهي لا تزال تبحث عن مكان لها، تتنقل في تحالفاتها كأرنب يقفز من حقل إلى حقل. والمؤسف أن تركيا محاطة بمجموعة من الدول التي كان من الممكن أن تنشأ معها أهم التحالفات السياسية والاقتصادية وأن تنهض باقتصادها بالذات، ويكون لها احترامها في محيطها، فيما يتم التعامل معها اليوم كدولة يُتّقى شرها. ففي الوقت الذي يرتفع فيه معدل التبادلات التجارية ما بينها وبين إيران، تمرر عملاء الموساد وإرهابيين لتنفيذ عمليات اغتيال. وحين باعتها روسيا منظومة صواريخ إس 400، وقامت بتنشيط السياحة معها، وقبلت بها كدولة وسيطة لبيع الحبوب إلى العالم بعد حرب الناتو ضدّ روسيا في أوكرانيا، تجدها تحاول ابتزاز أميركا من أجل المزيد من الاستثمارات مقابل وقف العلاقة مع روسيا. صحيح أن بعض الشركات الأميركية ابتدأت توقيع عقود في العام الماضي، ولكن لا الأميركي ابتدأ الاستثمار فعليًا ولا التركي حصل على مبتغاه، واليوم تعاني تركيا أكثر من الضائقة الاقتصادية العالمية وخاصة على المستوى الشعبي، فانصب جام غضب الأتراك على اللاجئين السوريين لأنهم سبب أزمتهم الاقتصادية.
قبل الدخول في الحديث عن تطبيع العلاقات السورية – التركية، تجب الإشارة إلى تأخر أردوغان سبعة أشهر قبل إعلان تضامنه مع الفلسطينيين في غزّة. تأخر أردوغان كاد يفقده قاعدته الشعبية، وتداركًا لذلك بدأ بإطلاق التصريحات المناوئة للصهاينة. وهذا ما جعله أيضًا في المراحل التالية يقترح لقاء مع الرئيس السوري وتسميته بالرئيس بشار الأسد، ومحاولة التقارب مع الدولة السورية، حتّى أنه لم يعد يتحدث بالقرار 2254. ولكن المضحك في تصريح أردوغان قوله إن بلاده وصلت إلى مرحلة بحيث إنه بمجرد اتّخاذ “الرئيس السوري بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب”. في لحظة كهذه يصرخ الأميركيون قائلين: Are you kidding me؟ أي: هل تخادعني؟ الرئيس بشار الأسد عليه اتّخاذ خطوة لتحسين العلاقات! وهنا نتبين قفزة جديدة من قفزات الأرنب التركي من ألمانيا، خاصة وأن هناك حديثًا أوروبيًّا عن لقاءات بين أوروبيين ومسؤولين سوريين لتجاوز العقوبات وتدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا.
ما يقوله أردوغان استفزازي، فهو الذي يحتل الشمال السوري، وابتدأت من أرضه الحرب على سورية بعد أن فُتحت له سورية من خلال مشروع البحار الخمسة، الذي أطلقه الرئيس الأسد في العام 2004، وابتدأ تبادل ومرور البضائع التركية السورية ضمن سياسة “التجارة الحرة”، أي دون دفع ضرائب أو جمارك على هذه البضائع. كان رد أردوغان بالتعامل مع الأميركيين من أجل تحقيق حلمه بإعادة سيطرة تركيا أو العثمانية الجديدة على الدول العربية من خلال الربيع “العبري”، الذي ابتدأ في العام 2011. وقد باءت أحلام أردوغان بالفشل بعد تحرير حلب في العام 2018 وبدء عملية تحرير ريف حلب. وقد كتبنا في هذا الأمر في العام 2019 بعنوان أردوغان ونهاية الأحلام التوسعية .
ما يريده أردوغان اليوم، ليس من سورية فقط بل من العراق أيضًا، تسليم رؤوس مسؤولي حزب العمال الكردستاني والفصائل الكردية المسلحة. كما يسعى لتسلّم الرؤوس القيادية الكردية في “مسد”، الإدارة الذاتية الكردية، لأن هؤلاء بالذات سيشكلون خطرًا حقيقيًا على تركيا إذا ما أخلى الأميركي منطقة البادية السورية في التنف وفي مناطق شرق الفرات، أي شرق منطقة الجزيرة السورية، ولذلك فهو ما يزال يناور حتّى اليوم من أجل تشكيل منطقة عازلة في الشمال السوري، بأي عمق يُسمح له به، من أجل توطين اللاجئين السوريين فيه وفرض نوع من التغيير الديمغرافي، وهذا ما لن ترضى به الدولة السورية.
يعتبر السوريون أن الأكراد السوريين هم شأن سوري وليس شأنًا تركيًا، ولكن وللأسف فقد تحول أكراد سورية إلى ورقة لعب أميركية. وقد شبهناهم دائمًا بأنهم “جيش لحد” الكردي والذين يمكن التخلي عنهم في أية لحظة، وباتوا ورقة تناوِر تركيا عليها وفيها. واليوم، تطالب تركيا بالقضاء على هذه الورقة بشكل نهائي، والسبب الحقيقي وراء هذا الأمر، أن الأكراد الذين يقاتلون في صف “قسد”، قوات سورية الديمقراطية، تعتبرهم تركيا فرعًا من حزب العمال الكردستاني، والأغلبية العظمى من مقاتليهم، هي من أكراد قنديل، سكان الجبال الواقعة ما بين العراق وتركيا وإيران، وهي جزء من سلسلة جبال زاغروس، وهم حتّى الساعة من حملة إحدى جنسيات البلاد الثلاثة، ويطالبون باستقلال كردستان العراق، وبذلك سيشكلون خطرًا حقيقيًا على أمن هذه البلدان وخاصة تركيا. وهذا الكلام صحيح، فهي مجموعات مدربة ومسلحة وقاتلت مع الأميركيين وسعت للانفصال في العراق، فهي تسعى للانفصال في دولة تقع في مراكز النفط والغاز والقمح السورية، وعلى الحدود الجنوبية لتركيا. وهذا هو سبب الاجتماع الحقيقي الذي سيقام في العراق، لأن هؤلاء باتوا خطرًا على أمن العراق وتركيا وإيران. ويبدو أن الرعاية الروسية للاجتماع في العراق إذا حدثت، ستكون في إطار المراقبة، وحين كشف عن هذا الاجتماع السيد فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي، وضعه في إطاره الأمني تحديدًا وليس في إطار تطبيع العلاقات مع سورية.
إن أي تطبيع للعلاقات ما بين سورية وتركيا، أو لقاء محتمل ما بين رئيسي البلدين، بالنسبة لسورية، يتطلب بدء انسحاب الجيش التركي من شمال سورية، وجدولة انسحاب كامل سريع. وما يتطلبه الاجتماع ما بين الرئيسين، وقف دعم المجموعات الإرهابية في الشمال السوري. وعلى الرغم من التغييرات الكبيرة التي يتعاطى بها النظام في تركيا مع المجموعات الإرهابية في محافظة إدلب وريفها والريف الغربي لمدينة حلب حيث ينشطون، فلا آمال ترجى حتّى اليوم في تغيير المواقف السورية – التركية، لأن ما فعله الأتراك في إدلب يشبه ما فعله الأميركيون في التنف، إذ قام الأتراك بتشكيل “الجيش الوطني السوري” مقابل “جيش سورية الحرة” في شرق الفرات، وهو عبارة عن تجمع “داعش” و”قسد”. أي أن الأتراك والأميركيين حتّى اليوم ينظمون خططهم بشكل متوازٍ.
قد تكشف المحادثات الاستخبارية بين القيادات الأمنية والعسكرية معلومات جديدة، إذا ما حصل اجتماع العراق، مع أن موعده لم يحدد بعد، ولكن اجتماع العراق لن يحدد مسار التطبيع بين البلد المُحتل والاحتلال، فمسار التطبيع بالنسبة للقيادة السورية محدّد بتحرير الأرض واحترام سيادة سورية وهو موقف مبدئي لم يتغير منذ بدأ اجتماعات أستانة الثلاثة عشر وحتّى اليوم.
في هذا الإطار يعد الأتراك بتسليم المعارضة السورية إلى دمشق في حال جرى التطبيع. وبالتأكيد سورية ليست مهتمة بتسلم هؤلاء، وما يجري من دفع لاجئي المخيمات من السوريين في المخيمات التركية باتّجاه الشمال السوري ليس بغريب على تركيا، إذ لا حاجة اليوم إليهم، وهي تصورهم على أنهم المعاروين، وهؤلاء فقط كبش الفداء المغرر بهم، وسورية تعرف ذلك، ولكن طريقة التعالي التركية في التعاطي مع سورية والمنطقة، والناتجة عن علاقتها بالناتو ستجعل من تركيا قريبًا كبش الفداء في المنطقة وخاصة إذا ما جاءت خسارة الناتو في أوكرانيا مدوية
(سيرياهوم نيوز ١-الحوار نيوز)