| عبد المنعم علي عيسى
بعد سبعة أيام من تفجير اسطنبول، أطلقت أنقرة عملية «المخلب السيف» التي قالت إنها لن تقف عند حدود الاستهدافين الجوي والمدفعي لنقاط ارتكاز وبنى تحتية في المناطق التي تسيطر عليها «قوات سورية الديمقراطية- قسد» المتهم الأول بالتفجير، وفق الرواية الرسمية التركية، وإنما سوف تتعداها إلى عملية برية تهدف للسيطرة على عين العرب وتل رفعت ومنبج، حيث يشير اختيار هذي المواقع إلى منهجية ترمي إلى تفكيك «الخطط الانفصالية» الأمر الذي نجحت أنقرة في الخروج من «أستانا 19» بتأييد داعم له بقوة، فتل رفعت تحوي الآن جل المقاتلين الفارين من عفرين بعد السيطرة التركية عليها شباط 2018، ومنبج تشكل نقطة ارتكاز يربط ما بين حلب والحسكة عبر طريق M4 الذي يتحكم بمفاصل الكهرباء المقامة على نهر الفرات، أما عين العرب فهي ذات طابع رمزي لكونها شهدت عام 2014 توقيع الشراكة مع الأميركيين عندما هاجم «تنظيم الدولة الإسلامية» تلك المدينة قبيل أن يندحر عنها منتصف عام 2015، من دون أن يعني ذلك انعدام أهمية المدينة التي تلعب أيضاً دور صلة الوصل على طريق حلب- الحسكة.
منذ بدء عملية «المخلب السيف» في 20 تشرين الثاني المنصرم تعالت التهديدات التركية التي غالباً ما ترافقت مع التصعيد على الأرض بغرض إعطائها المصداقية التي قد تغني عن القيام بعملية برية لا يبدو أنها تحظى برضا روسي تام ولا بتأييد أميركي، وفي الغضون راحت أنقرة تقول إنها «لا تنتظر إذناً من أحد حينما يتعلق الأمر بمخاوفها الأمنية» وفقاً لما أعلنه المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن قبل أيام، لكنها في الوقت ذاته وجدت أن من المفيد، والحال هذه، إتاحة الوقت لمساعٍ روسية بدت متعثرة لجهة إقناع «قسد» بتنفيذ اتفاق عام 2019 الجاري آنذاك برعاية روسية- أميركية مشتركة، والقاضي بوجوب ابتعاد فصائل هذه الأخيرة لمسافة 30 كيلومتراً عن الحدود السورية- التركية، وكذا الانتظار بغية تبلور موقف أميركي واضح حيث بدا هذا الأخير ضبابياً بدرجة لا يمكن معها سبر مراميه الحقيقية، وبمعنى آخر، إتاحة الوقت لتبلور موقف أميركي ترى أنقرة أن عملاً عسكرياً يهدف إلى اجتياح تل رفعت ومنبج أمر قد لا تعارضه واشنطن انطلاقاً من أن المصلحة الروسية تقوم على المحافظة على وضعية «الستاتيكو» القائمة منذ عام 2019، ناهيك، ونحن لا نزال في الحسابات التركية، عن أن التوسع التركي في منبج وعين العرب لا يضيق على الشراكة الأميركية – «الكردية» القائمة أصلاً على تشكيل «نخر» في البنيان السوري.
وفق وسائل إعلام تركية فإن قائد القوات الروسية في سورية ألكسندر تشايكو كان قد نقل تحذيراً نهائياً لقائد «قسد» مظلوم عبدي عندما التقاه يوم 27 تشرين الثاني الماضي بشأن العملية العسكرية التركية قائلاً له: إن «موسكو غير قادرة على وقفها إذا لم تسحب «قسد» كامل قواتها ومؤسساتها من عين العرب ومنبج وتل رفعت وتسلم المنطقة للجيش السوري»، لكن عبدي، وفق المصدر آنف الذكر، رفض ذلك.
كانت، ولا تزال، حسابات «قسد» تقوم على اعتبار أن الوساطة الروسية من شأنها وضع هذه الأخيرة أمام أحد خيارين، أولاهماً القبول بالانسحاب من الشريط الحدودي الذي يعني تلقائياً سيطرة الجيش العربي السوري عليه، وثانيهما الرفض الذي يعني وقوع ذلك الشريط تحت السيطرة التركية، والحسابات «القسدية» كانت ترى أن لكل من السيناريوهين السابقين تداعياته السياسية والعسكرية المختلفة عن الآخر، وفي المفاضلة كانت الخيارات ترى أن السيناريو الثاني هو الأفضل بكل المقاييس للكينونة «الإنفصالية» التي ستخسر جزءاً من الجغرافيا أمام التمدد التركي، لكنها ستخسر «البنيان» أمام «التمدد السوري» فيما لو حصل، وذاك خيار خطير ربما لم يجر الانتباه إلى أنه يقود تدريجياً نحو مغادرة «المشروع» للكينونة السورية تماماً بما يكفي لاعتباره تناحرياً معها، أو إلغائياً لها.
لا تقوم الحسابات «الكردية» هنا على الدعم الأميركي فحسب، على الرغم من أهمية هذا الأخير في تلك الحسابات التي لا تستوي من دونه، لكنها تقوم في عمقها على رؤيا تقول: إن «مد» القومية العربية الآخذ بالانحسار منذ هزيمة حزيران 1967 قد دخل، ما بعد حلول «الربيع العربي» 2011، مرحلة التلاشي التي تعني بالنسبة للمنظرين في «جبال قنديل» وجوب الاستثمار فيها عبر الاستناد إلى الدعم الأميركي ثم تأطيره في سياق إعطاء الزخم لـلمد «الكردي» بطريقة هي أشبه ما تكون إسقاطاً للنتائج المستحصلة من تجربة قيام «دولة» إسرائيل، وربما كانت الأحداث التي تشهدها إيران قبل نحو ثلاثة أشهر، والتي أضحى «حزب البيجاك» الطبعة الإيرانية من «حزب العمال الكردستاني»، خزان وقودها الأساسي، في دليل صارخ على وجود قرار، ناجم عن القراءة سابقة الذكر، بوجوب توسعة المشروع تخفيفا للضغط عن الذراعين العراقي والسوري الملتهبين منذ سنوات.
هذا يفسر وبدرجة قاطعة تفضيل «قسد» لخسارتها أجزاء من المناطق التي تسيطر عليها لمصلحة أنقرة على «خسارتها» أمام دمشق، فالخسارة الأولى قد لا تعني الكثير للمشروع لأنه يفترض أن المناطق التي ستتم خسارتها سوف تنضم إلى «خسائر» واقعة أصلاً في مناطق الجنوب التركي التي يرى «المشروع» أنها جزء من أراضيه، أما «خسارتها» أمام دمشق فهذا يعني استعادة الكينونة السورية لتوازنها الأمر الذي يعني عودة المشروع إلى نقطة الصفر التي كان عليها قبل عام 2014، فالجغرافيا السورية ستظل مفتاحية لكل التحولات التي يمكن أن تشهدها المنطقة، ومن الصعب على «الكل» النجاح في إحداثها انطلاقاً من جغرافيات أخرى، ألم تفشل المحاولة الأميركية في إحداث تحولات وازنة على امتداد المنطقة انطلاقاً من إسقاطها لبغداد عام 2003؟
رفضت القيادة التركية طلب الولايات المتحدة «دراسة العملية العسكرية المحتملة ضد الإرهاب في شمال سورية» بل وطالب وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، واشنطن الوفاء بالتعهدات المقدمة منها، وبذا تكون «مغامرة رأس المملوك جابر» قد دخلت فصلاً جديداً قد يكون الأخير من مغامراتها المستمرة منذ نحو سبع سنوات.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن