جرعة التفاؤل التي دأب الطرفان الإيراني والدولي على بثّها لا تُصرَف إلاّ في خانة تأكيدِ أنَّ خيار التفاوض هو الحل الأمثل لمشكلة البرنامج النووي الإيراني ونظام العقوبات.
كما كان متوقَّعاً، عادت الوفود إلى فيينا لمحاولة الوصول إلى تسوية تعيد إلى خطة العمل المشتركة بعض الحياة. وإذا كانت العودة إلى طاولة المفاوضات متوقَّعة، إذ إن الجانبين، الأميركي والإيراني، أعلنا سابقاً أن خيار المفاوضات ما زال الأمثل لحل إشكالية البرنامج النووي الإيراني، فإن الخلفية التي ينطلق منها الطرفان لا توحي بإمكان الوصول إلى أرضية مشتركة تُرضيهما. فخطّة العمل المشتركة نصّت على أن سريانها ينتهي بعد نحو أربع سنوات، أي في عام 2025، بالإضافة إلى أن الظروف الموضوعية والتِّقْنية لكلا الطرفين شهدت، خلال السنوات القليلة الماضية، تبدُّلات جذرية، يمكن القول إنها ستساهم، بصورة كبيرة، في تعقيد مهمة العودة إلى التزام بنود الاتفاق.
فإذا كان الرئيس الأميركي السابق انسحب من الاتفاق، نتيجة يقينه بأن النتائج المتوخاة منه لا تتوافق مع الرؤية النمطية للإدارات الأميركية، إذ إن الخيار الأميركي الوحيد الصالح للجمهورية الإسلامية يتمحور حول ضرورة إسقاط نظامها، أو تقييد أي إمكان لانفتاحها على العالم ومحاولة محاصرتها بغية إسقاطها عبر أساليب الحرب الذكية وأدوات العقوبات المرهقة، فإن رؤية الإدارة الحالية لا تتباين كثيراً من حيث المضمون، وإن كانت ترتكز على استراتيجية جديدة مرتبطة بالتحوّل الاستراتيجي للسياسات الاميركية في الشرق الأوسط.
وإذا عدنا إلى ما تضمَّنته التصريحات الأميركية منذ مجيء جو بايدن، فإن الثابت الاستراتيجي بالإجماع لديها، يتمحور حول ضرورة تقييد القدرات التقنية النووية للجمهورية الإسلامية وتعطيلها، بالإضافة إلى تطويقها لجهة دورها في الإقليم، والحد من قدراتها الباليستية، على نحو يضمن تحييد كل ما يمكن أن تحتاج إليه الجمهورية الإسلامية في عملية بناء مشروعها للأمن القومي، وتحصين ساحتها الدفاعية لتجنب أيّ ضربة مفاجئة قد تتعرّض لها، سواء من القوات الأميركية الموجودة في المنطقة، أو من جانب الكيان الإسرائيلي المتعطش إلى حرب تقصم ظهر عدوه الأول والأخطر في المنطقة.
أمّا على مستوى الموقف من خطة العمل المشتركة، فإن الاعتقاد الراسخ لدى الإدارة الاميركية يتمحور حول أن بنودها لم تعد صالحة في ظل الظروف الحالية، ذلك بأن المشروع النووي الإيراني تخطى بأشواط كثيرة الحدود التي كانت تأمل القوى الدولية في وقوفه عندها. وحيث إن نسبة التخصيب وصلت إلى حدود ستين في المئة، إذ إن الجانب الإيراني أعلن، منذ عام 2019، تحلّله التدريجي من التزاماته، فإن الجانب الأميركي أصبح متيقناً بأن سلاح العقوبات وسياسات التهديد والترهيب، والتي مورست أكثر من ثلاث سنوات، لم تؤدِّ إلى النتيجة المرجوّة. وإذا ربطنا هذا الواقع بالتوازن الإقليمي المستجدّ، فيمكن الجزم بأن سياسات الضغط على الجمهورية الإسلامية لم تؤدِّ إلى كبح تقدم البرنامج الإيراني، بل ساهمت بصورة عكسية في تعزيز دور الجمهورية الإسلامية الإقليمي، بحيث ترافق الانعزال الأميركي، نتيجة الانسحاب الأحادي من الاتفاق، مع تقدم واضح في مستوى علاقات الجمهورية الإسلامية الإقليمية.
من ناحية أخرى، فإن مطلباً إيرانياً آخر يشكّل عقبة أمام طريق العودة الأميركية إلى الاتفاق. فالمطالبة الإيرانية بالحصول على تعهدات تضمن عدم إمكان تفلُّت الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق، في حال إعادة انتخاب دونالد ترامب أو أي شخصية أخرى معارضة لخيار التفاوض والاتفاق مع الجمهورية الإسلامية، أمر لا يمكن للإدارة الحالية أن تكفله، إذ إن الإدارة الحالية تفتقد الإجماع الداخلي على هذا الموضوع، بالإضافة إلى جملة الضغوط التي تمارَس عليها من جانب اللوبي الصهيوني في الداخل، وفي الكيان الصهيوني
أمّا على المستوى الإيراني، فإن وصول المحافظين، عبر الرئيس إبراهيم رئيسي، إلى الحكم في طهران، شكّل بداية لمرحلة أمكن وصفها بالمتشددة، إذ اتَّسمت بداية حكمهم بإعلانٍ مفاده أن المفاوضات من أجل العودة إلى الاتفاق النووي لن تكون غاية، كما كانت في عهد الرئيس السابق حسن روحاني. فالثابت لديهم أن خيار المفاوضات مع القوى الدولية والولايات المتحدة لن يكون إلا وسيلة، ضمن وسائل أخرى، هدفها رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية بصورة كاملة، مع رفض التطرق إلى أي ملفات أخرى، خلال جولات التفاوض، كالبرنامج الصاروخي الباليستي، أو ما يُعرف بملف النفوذ الإيراني في الإقليم.
في تحليل بسيط لجوهر فكرة رفع العقوبات، وفق الرؤية الإيرانية الحالية، فإن الأمر لا يتعلق بملف العقوبات المرتبط بالملف النووي الإيراني فقط. فالمشروع الإيراني الحالي يرتكز على محددات مغايرة لما كان يُعتبر نمطياً لدى الحكومات السابقة. فإذا كانت حكومة الرئيس السابق تعتبر أن النجاح في ملف المفاوضات يرتكز على ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، في مقابل قبول تقييد البرنامج النووي بشروط، يُعتبر البروتوكول الإضافي الذي أُبرم مع الوكالة الدولية أخطرها، لناحية الزيارات المفاجئة وتقييد التخصيب بنسبة 3.67، فإن الإدارة الحالية تفترض أن قبول هذه المعادلة يشكّل انتقاصاً من حقوقها، ولا تصلح للمرحلة الحالية. فالجمهورية الإسلامية، منذ عام 2018، أظهرت مرونة وقدرة لناحية الالتفاف على سياسة العقوبات، ونجحت في أماكن كثيرة في التقليل من أثرها، بحيث إن العلاقات التي نسجتها ببعض القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، كالاتفاق الاستراتيجي مع الصين، أو اتفاق التعاون الاستراتيجي مع روسيا، بالإضافة إلى إعادة الانفتاح الخليجي عليها، رسَّخت لديها قناعة بانعدام الإنصاف عند المساومة على تقييد برنامجها النووي في مقابل التحرر من نظام العقوبات المفروض عليها.
ومن أجل إضافة مزيد من التعقيد إلى هذه المفاوضات، فإن الواقع الحالي للإدارة الأميركية، وتعرُّضَ رئيسها لانتقادات قاسية ومطالبات بالاستقالة بعد انسحابه العشوائي من أفغانستان، بالإضافة إلى عدم الرضا الصهيوني عن إدارته الحالية عدداً من الملفات الحساسة، كلها أمور تدفع الحكومة الإيرانية إلى التريث، وعدم السعي لاستعجال اتفاق مع إدارة لن تضمن بقاء رئيسها لولاية ثانية، مع ما يعنيه هذا الأمر من ارتفاع منسوب العودة إلى مربَّع العقوبات، وعدم الالتزام الأميركي فيما يتعلق بشروط الاتفاق.
أمّا على المستوى التقني، فإن الحكومة الإيرانية المحافظة، وإن كانت مقتنعة بفكرة التفاوض مع الغرب، فإن هذه القناعة لا تنعكس قبولاً لصيغة خطة العمل المشتركة، لجهة قبول تقييد الجمهورية الإسلامية بأكثر نظام معقَّد للتفتيش من جانب الوكالة الدولية، أو بتحديد سقف التخصيب في غير ما هو منصوص عليه في المواثيق الدولية، بالإضافة إلى أن الرؤية الإيرانية الحالية تفترض عدم القدرة أو الرغبة الأميركية في إلغاء كامل العقوبات وضمان عدم إحيائها في المستقبل، بحيث إن أي رئيس أميركي يمتلك صلاحية توقيع عقوبات من خلال قرارات تنفيذية، بالإضافة إلى أن العقوبات الحالية وإمكان رفعها ترتبط بتعقيدات المشهد السياسي الأميركي الداخلي، وبالعملية الدستورية التي يحكمها التصويت داخل الكونغرس.
وعليه، يمكن القول إن جرعة التفاؤل التي دأب الطرفان الإيراني والدولي على بثّها لا تُصرَف إلاّ في خانة تأكيدِ أنَّ خيار التفاوض هو الحل الأمثل لمشكلة البرنامج النووي الإيراني ونظام العقوبات. ويمكن الإشارة إلى أن الوقائع، التي رشحت قبل جولة المفاوضات الأخيرة وخلالها، تدلّل على أن فرص الالتقاء في مساحة مشتركة في المدى القريب أو المنظور ما زالت صعبة ومعقدة. وللتدليل على هذا الأمر، نشير إلى أن الجولة الحالية خُتِمت يوم الجمعة من دون إعلان أي خرق حقيقي بشأن الملفات العالقة، لجهة رفع العقوبات أو نسبة تخصيب اليورانيوم
(سيرياهوم نيوز-الميادين ٤-١٢-٢٠٢١)