جاك وهبه:
بعد سنوات من العقوبات المشددة والانكماش الاقتصادي، تقف سوريا اليوم على عتبة مرحلة جديدة، مع صدورقراررفع العقوبات الأميركية الذي فُسّر محلياً وإقليمياً كنافذة أمل لبدء مسار اقتصادي مختلف.
لكن التحديات لا تزال ثقيلة، وأبرزها ما تعانيه البلاد من شح السيولة النقدية في السوق المحلية، وتدهورالثقة بالعملة الورقية القديمة، في ظل تداول أحاديث متزايدة عن نية رسمية لاستبدال العملة الحالية بأخرى جديدة، كجزء من خطّة أوسع لإعادة هيكلة السياسة النقدية.
خيار استراتيجي لإعادة الهيكلة
وسط هذا الواقع، يبرز خيارغيرتقليدي، لكنّه يزداد وجاهة في الخطاب الاقتصادي العالمي، العملات الرقمية.. فهل يكون إصدار عملة رقمية سورية مخرجاً واقعياً من أزمات النقد والتضخم والحصار المصرفي؟!.
وهل يمكن لهذا المشروع أن يوفّر للدولة السورية أدوات جديدة للسيطرة على الكتلة النقدية، وتجاوزالعقبات التي فرضتها البنية المالية التقليدية؟!.
في ظلّ هذا المشهد المعقّد، يرى اقتصاديون أن الفرصة مواتية لسوريا للدخول الجاد في عصرالاقتصاد الرقمي، والاستفادة من رفع العقوبات لتطوير نموذج مالي حديث يتجاوزالقيود السابقة.
ويوضح الخبير في الشؤون الاقتصادية محمد السلوم في حديث خاص لصحيفة الثورة تفاصيل أهمية تبني سوريا لعملة رقمية وطنية، والفرص والتحديات التي ترافق هذه الخطوة الحيوية، واعتبر أن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يفتح أمام البلاد آفاقاً اقتصادية جديدة ينبغي استثمارها بذكاء وجرأة، مشيراً إلى أن من أهم هذه الفرص هي تبني عملة رقمية وطنية تكون نواة الاقتصاد الرقمي لسوريا الجديدة.
وقال السلوم: “سوريا الخارجة من سنوات طويلة من العقوبات والانهيار الاقتصادي، أصبحت اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة شاملة لمنظومتها المالية، وتحقيق استقلال مالي حقيقي يضمن السيادة الاقتصادية ويُخرجها من دوائرالتبعية للنظام المالي الدولي التقليدي”.
تجارب دولية ملهمة
وأوضح السلوم أن التجارب الدولية في هذا المجال تقدّم مؤشرات واضحة على جدوى هذا التوجه، مبيناً أن “فنزويلا، رغم التحديات، أطلقت في 2018 عملة رقمية سيادية مدعومة بالنفط تُعرف بـ(البترو) بهدف الالتفاف على العقوبات الأمريكية”، مضيفاً: إن “نيجيريا أيضاً أطلقت عملتها الرقمية (eNaira) لتعزيزالشمول المالي والحدّ من الاعتماد على النقد في ظلّ أزمة تضخم حادة، وهي تجربة حظيت بمتابعة ودعم مؤسسات دولية كصندوق النقد”.
وتابع: “أما الصين، فقد دخلت هذا المسار بقوة عبر مشروع (اليوان الرقمي)، ليس فقط لأسباب اقتصادية داخلية، بل كجزء من استراتيجية أوسع لفك الارتباط بالدولار الأميركي في تعاملاتها الدولية، وهو نموذج طموح يعكس التوجه العالمي العام”. وأكد السلوم أن سوريا لا يمكنها أن تبقى على هامش هذا التحول العالمي، مشيراً إلى أن العملات الرقمية لم تعد خياراً ترفيهياً أو مجرد تطورتقني، بل باتت ضرورة استراتيجية، خاصةً في دول تسعى لإعادة بناء نفسها من الصفر.
وأوضح أن إطلاق عملة رقمية سورية سيمنح البلاد أداة مالية سيادية يمكن استخدامها محلياً وفي التعاملات الدولية بعيداً عن وساطة البنوك العالمية والضغوط السياسية، مما يُعزز قدرة سوريا على إدارة احتياطياتها المالية بمرونة ويمنحها استقلالية حقيقية في سياساتها النقدية.
تحديث الاقتصاد السوري
من الناحية الفنية، أكد الخبير في الشؤون الاقتصادية أن اعتماد سوريا على تقنية البلوك تشين في إصدارعملتها الرقمية سيُساهم في تحقيق شفافية عالية في المعاملات المالية، والحدّ من الفساد المالي، ورفع كفاءة إدارة الموارد، مشيراً إلى أن هذا التوجه سيساهم في بناء قاعدة اقتصادية مستقرة ومعاصرة، تنسجم مع المعايير الدولية في الحوكمة والمحاسبة.
كما أشار إلى أن رفع العقوبات الأميركية يمثّل عاملاً حاسماً في تمكين سوريا من إطلاق عملة رقمية فعّالة، مؤكداً أن هذه العقوبات، لسنوات، حرمت البلاد من التعامل بالنظام المالي العالمي، ومن الوصول إلى تكنولوجيا مالية متقدّمة، ومن التعاون مع شركات دولية متخصصة في تطوير الحلول الرقمية.
وأوضح أن رفع العقوبات يُمهّد الطريق لتعاون دولي واسع في مجال التكنولوجيا المالية، ويتيح للحكومة السورية الجديدة الاستفادة من خبرات عالمية في مجال البلوك تشين والعملات الرقمية، مشيراً إلى أن هذه الخطوة لن تُسهم فقط في تحديث الاقتصاد السوري، بل في فتح أسواق جديدة وتعزيز العلاقات التجارية مع دول مستعدة لقبول العملة الرقمية السورية.
تحديات أمام المشروع
ومع ذلك، حذّر السلوم من تحديات تقنية وتشريعية كبيرة تقف أمام هذا المشروع، أبرزها ضعف البنية التحتية الرقمية في سوريا، والحاجة إلى استثمارات ضخمة في مجالات الإنترنت، والحوسبة، والأمن السيبراني، كما أكد على ضرورة بناء إطار قانوني واضح لتنظيم استخدام العملة الرقمية، يحفظ استقرارها، ويمنع التلاعب بها، ويضمن حماية المتعاملين بها.
وتابع قائلًا: “أي عملة رقمية لا بد أن تحظى بثقة المستخدمين في الداخل والخارج، وهذا يتطلب جهوداً كبيرة من الحكومة السورية الجديدة على مستوى التوعية، وتوفير الضمانات القانونية والمالية الكافية”.
ومن الناحية الاجتماعية، أشار السلوم إلى أن العملة الرقمية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تحسين الوصول إلى الخدمات المالية، خاصة في ظل ضعف البنية المصرفية التقليدية في عدد كبير من المناطق السورية، وأضاف: إن تبني العملة الرقمية يمكن أن يُفسح المجال أمام شريحة واسعة من الشباب للمشاركة في الاقتصاد الرقمي العالمي، ويوفر فرص عمل جديدة في مجالات مثل البرمجة، وتحليل البيانات، والتجارة الإلكترونية”.
إعادة تموضع
وفي ختام تصريحه، شدد الخبير في الشؤون الاقتصادية محمد السلوم على أن العملات الرقمية تمثل فرصة تاريخية لسوريا الجديدة، ليس فقط في تجاوز آثار العقوبات، وإنما في إعادة تموضع البلاد اقتصادياً على الساحة الدولية، داعياً إلى التعامل مع هذه المبادرة بجدية، واستثمار اللحظة الراهنة لإطلاق مشروع وطني للعملة الرقمية يكون نواة لاقتصاد رقمي شامل.
وقال: “إذا أُحسن استغلال هذه اللحظة، فقد تكون العملة الرقمية السورية رمزاً جديداً لسيادة البلاد واستقلالها المالي، وركيزة للتحول الاقتصادي والاجتماعي في المستقبل القريب”.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة