عبد اللطيف عباس شعبان
رغم حاجة وأهمية حضور الدولة القويّ في كثير من الشؤون الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها (والمعمول به لدرجة ما في جميع الدول، حتى الرأسمالية)، إلا أنه قد سبق أن تمّ في بلدنا – قبل سنوات – تخفيف هذا الحضور من خلال إطلاق شعار الحدّ من أبوية الدولة.
ومن المؤسف أن الحكومات المتعاقبة قد عملت الكثير لتحقيق هذا الشعار خلال العقود الماضية، مدّعية التعويض بمفهوم التدخل الإيجابي للحكومة عند الاقتضاء، ولكن واقع الحال أثبت حياد الحكومات المتعاقبة جزئياً أو كلياً عن هذا التدخل الموعود، بالحجم الذي تقتضيه الضرورة الوطنية في الكثير من القضايا الاقتصادية، حتى في ميادين سياسة الإصلاح والتطوير والتحديث ومكافحة الفساد، التي تمّ إعلانها على الملأ، والتي تستوجب ضرورة التدخل الإيجابي المزعوم من الحكومة لغاية تحقيق الأهداف المنشودة، ولكن تدخلها المحدود كان أقل من المتوخى والمنشود، إذ كان قاصراً ومقصراً، ويبدو ذلك جلياً عند مقارنة المعمول مع المأمول، إذ وقفَت الحكومات المتعاقبة متفرجة على الواقع الاقتصادي المتردي بتتابع، بما فيه من حالات خلل وجمود وتراجع، بدليل ما عشناه من محدودية الإصلاح والتطوير والتحديث والتنمية الإدارية ومكافحة الفساد، ما أوصلنا إلى الواقع الصعب الذي نحن فيه الآن، والمتخوَّف من أسوئه القادم.
فالتدخل الإيجابي قلَّ وجوده وقلّت فاعليته حين حدوثه، والأمثلة على ذلك كثيرة، إذ لم يظهر حضور لهذا التدخل بغية الحدّ من التناقص الخطير المتتالي الذي اجتاح أعداد الثروة الحيوانية بأنواعها بما في ذلك الحيوانات الخيلية، حتى وصل سعر الحمار اليوم إلى ما يقارب 3 ملايين ليرة سورية، وبدلاً من وجود 5 – 10 أنواع من الماشية لدى كل أسرة ريفية لسنوات مضت، لكن واقع الحال يظهر شبه انقراض لتربية الماشية، واقتصارها على آحاد الأعداد وعند آحاد الأسر فقط في كثير من القرى.
كما وأتذكر أن تربية دودة الحرير كانت موجودة عند كل أسرة من أسر قريتي وقرى أخرى كثيرة في محافظتي الساحل والريف الشرقي لمحافظتي حمص وحماة، إلاَّ أن دودة الحرير انقرضت وأصبح المربون بالآحاد على مستوى المحافظات الأربع، وكذلك يتتالى عزوف كبير عن تربية الدواجن المنزلية، وأعقب هذا تناقص مخيف لمربي حظائر الدواجن، ما أوصل سعر البيضة إلى ما يزيد عن الألف ليرة وسعر كيلو الفروج إلى ما يزيد عن عشرين ألف ليرة، بالترافق مع غياب التدخل الإيجابي الموعود والمطلوب من الحكومة في القطاع الزراعي رغم الشعار الذي طرحته الحكومة (زراعة كل شبر أرض).
عدم تدخل تسبّب في بوار الكثير من الحيازات الزراعية، وارتفاع أسعار جميع المنتجات الزراعية بشكل كبير، فسعر كيلو أغلب أنواع المنتجات الزراعية الذي كان بآحاد الليرات قبل أعوام، أصبح اليوم بآحاد الآلاف، وما كان منها بعشرات الليرات أصبح اليوم بعشرات الآلاف، ولم يظهر التدخل الإيجابي للحكومة فيما يهمّ شؤون الجيل الشاب القادم لحياة زوجية أسرية، فقد تعثَّر حلم الشباب في تأمين فرصة عمل في القطاع العام رغم انخفاض القوة الشرائية للرواتب، وترافق ذلك بانخفاض فرص العمل في القطاع الخاص، حتى غدت الهجرة الخارجية، طموح الكثير من الشباب متى سنحت لهم الفرصة، وتلاشى حلم شريحة كبيرة منهم في تأمين مسكن يجمعهم في حياة زوجية، نظراً للارتفاع الكبير المتتالي في أسعار جميع مستلزمات البناء، ولم يُلحظ أي تدخل إيجابي من الحكومة في حلّ أزمة الكهرباء المتفاقمة منذ سنوات، رغم تتالي الوعود بذلك، بل كثيراً ما لوحظ تفاقم جديد عقب كل وعد بالتحسُّن!.
ومن الأمثلة السيئة على ما يُسمّى التدخل الإيجابي نسأل: هل غاب عن ذهن الحكومة أن منح قرض الطاقة الشمسية من دون فوائد لا يعتبر تدخلاً إيجابياً، لأن النسبة الكبيرة من المواطنين لا تستطيع تركيبها بسبب ارتفاع كلفتها، والقسط الشهري لقرضها يزيد عن الراتب الشهري لأقدم موظف من الفئة الأولى، ويستهلك راتبه لمدة خمسة عشر عاماً.
والسؤال الذي يطرح نفسه: طالما تبيّن بوضوح وجلاء أن التدخل الإيجابي العلاجي المعمول به من الحكومة، كان أقلّ من المأمول منها، أليس عليها أن تدرك ضرورة تدخلها الإيجابي الوقائي، الذي هو أقل كلفة وأكثر جدوى بكثير من التدخل الإيجابي العلاجي؟!. وهنا يمكن أن نسوق مثالاً لا حصراً تجربة إنتاج محصول البصل في العام الماضي الذي لم تستفد منها الحكومة، فحين لم تتدخل في تصديره وتنظيم تخزين كميات كبيرة منه لديها، أدى ذلك لاحتكار التجار للمادة، ما تسبّب في فقدانه من السوق، ومن ثم الاضطرار لاستيراده بأسعار كبيرة وبيعه للمستهلكين عن طريق البطاقة الذكية.
وفي هذه الأيام أين دور الحكومة وتدخلها الإيجابي من ظاهرة تسويق التجار لمادة زيت الزيتون هذا العام، التي تمّ تجميعها من المنتجين بأسعار غير معهودة ومرتفعة تتابعياً بين يوم وليلة، حتى وصل سعر كيلو زيت الزيتون اليوم إلى ما يقارب ثلاثة أمثال سعره في الموسم، ما دفع الكثير من المنتجين للبيع على حساب كمية المؤونة المعتادة، وأغلب غير المنتجين لم يعد باستطاعتهم شراء حاجتهم من المادة، فالراتب السنوي لموظف الفئة الأولى يشتري تنكة ونصف من الزيت فقط، في حين أن متوسط استهلاك الأسرة من زيت الزيتون نحو خمس تنكات، ما يتسبّب في الإقلال من استهلاك المادة رغم أهميتها الغذائية، فهي حاجة كل وجبة غذائية وليست حاجة يومية فقط.
والسؤال الكبير: ما هو مصير مستهلكي مادة زيت الزيتون هذه في ظلّ الغلاء الكبير لها والانخفاض الكبير في إنتاجها للموسم القادم، وطالما لم يحدث تدخل إيجابي مُسبق من الحكومة في تسويق المادة، كيف سيكون التدخل الإيجابي اللاحق لها لتأمين المادة للمستهلكين بسعر مقبول؟! وهل سيكون التدخل الإيجابي للحكومة بالعمل على استيراد المادة بأضعاف ما باعها المنتج، واقتحام مخازن التجار والسيطرة على موجوداتها، بحجة احتكارهم للمادة كما فعلت سابقاً بشأن مادة البصل، والحال نفسها بالنسبة لمادة الثوم التي ارتفع سعرها عالياً؟!، وهنا ألا يصح القول “من لا يحسَب يُغلَبْ، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج”.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
(سيرياهوم نيوز ١-البعث)