| عماد الدين رائف
لقّب بــ”مؤسس الأدب السوفياتي”، هل كان مكسيم غوركي رهينة النظام الشيوعي؟ وماذا عن علاقته بلينين وستالين؟
شهدت حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مطلع التسعينيات، موجة انتقام قاسية وجهها أسياد المرحلة الجديدة ضدّ الرموز الاشتراكية عامة.
يختلف تقييم تلك المرحلة بين باحث وآخر، وقد يكون من المبكر دراستها بتأنٍ، إذ إننا لمّا نغادرها رسمياً بعد على الرغم من بدء المواجهة بين الاتحاد الروسي والغرب، إلا أن تلك الموجة التي تميّزت بالإقصاء والاجتثاث، أظهرت للوهلة الأولى نشوة المنتصر التي سيطرت على ذوي التوجه الغربي، وهم ينزعون هالة “القداسة” السوفياتية التي أضفيت إلى ثقافة الواقعية الاشتراكية، بوصفها “التعبير الجمالي عن المفهوم الاشتراكي الواعي للعالم الإنسان”، وكان من روادها ألكسي مكسيموفيتش بيشكوف (1868-1936)؛ الأديب البارز المعروف عالمياً باسم مكسيم غوركي.
رائد الواقعية
طُمست أعمال كثيرين من الكتاب والشعراء والفنانين، إلا أن تلك الموجة لم تستطع وصم غوركي والتغلّب في الغموض المحيط به وبأعماله، فبدت إلى حد ما شبيهة بملحمة “الدون الهادئ”، رائعة ميخائيل شولوخوف، وأعماله الأخرى عن القوزاق، التي فسّرها كل طرف بما يوافق أهواءه.
مع غوركي، حاول غربيو الهوى فصل شخصيته عن أعماله، وذلك ينمّ عن تعمّد في التعمية على جوانب من حياته في مرحلة ما بعد الثورة البلشفية، وعن تقصّد إظهاره ضحية لدى الجمهور. وقد ساهم ذلك في زيادة الغموض الملازم لشخصيته.
هل كان غوركي، صديق الزعيمين الشيوعيين فلاديمير لينين ويوسف ستالين، رهينة النظام، كما أرادوا تصويره؟
فسَّر النقد الأدبي السوفياتي تطور الفن الواقعي على أنه انتقال من الواقعية النقدية المتجسّدة في أعمال ألكسندر بوشكين ونيقولاي غوغول وإيفان تورغينيف وليف تولستوي إلى الواقعية الاشتراكية، التي كانت الطريقة الرسمية والفنية الوحيدة للفن السوفياتي.
اعتُبر أنطون تشيخوف آخر ممثّل للواقعية النقدية، فيما حصل غوركي على دور “مؤسّس أدب الواقعية الاشتراكية” و”مؤسس الأدب السوفياتي” (وفق الموسوعة السوفياتية الكبرى)، ورأى النقاد أنَّ مسرحية “أعداء” (1906) ورواية “الأم” (1906) نموذجان من “أبرز أعمال الواقعية الاشتراكية”.
ومن الطبيعي أن يتأخّر تشكّل نظرية الواقعية الاشتراكية بشكلها السوفياتي بناء على وفرة المنتج الأدبي حتى ثلاثينيات القرن العشرين، لكن بقي غوركي في الصدارة ككاتب بروليتاري كبير تجمعه صداقة خاصة مع لينين. وقد دعمت تلك الصداقة بعناصر بصرية قوية (منحوتات، لوحات، صور فوتوغرافية) تصوّر الزعيم الشيوعي مع رائد الواقعية الاشتراكية. يُقال إن المرء ابن بيئته وحقبته، فهل حُكم على غوركي بأن يبقى “رهينة” بحكم قربه إلى القيادة؟
برج العقرب
“تحت برج العقرب”، فيلم تلفزيوني تاريخي روسي ليوري سوروكين، عرض للمرة الأولى على الشاشة الصغيرة عام 1996، بعد 4 سنوات على البدء بتصويره. يضيء الفيلم على سيرة غوركي بعد ثورة أكتوبر 1917.
يكمن الإبداع في أن كاتب السيناريو ألكسندر لابشين يخوّلنا أن ننظر إلى الأحداث من خلال عيني غوركي، مركزاً على أنه اصطدم بأفكار البلاشفة بعد الثورة. لم يحكم الفيلم على الكاتب بأنه بات رهينة النظام الجديد، ثم ضحيته، حكماً مبرماً، بل قرّب المشاهد من ذلك، كاشفاً عن صورة المثقف من منظور علاقته بالسلطة، ومحاولاته التوفيقية البائسة معها، وإن لم يحصل ذلك، فعلى الأقل حاول إبعاد الأذى عن المثقفين الآخرين، إن كان له إلى ذلك سبيلاً.
نراه، مثلاً، مع صاحب الصوت الأوبرالي ألفريد فيودر إيفانوفيتش شالابين (1873 – 1938)، الذي كان المغني الأول في مسرح البلوشوي ومسرح مارينسكي ومسرح ميتروبوليتان للأوبرا، والذي حصل على لقب الفنان الشعبي الأول عام 1918.
حين استُدعي شالابين إلى الكرملين للمثول أمام لينين، كانت نصيحة غوركي له وهو يرافقه في سيارته نحو الساحة الحمراء: “انسَ كلّ ما يجول في خاطرك من تذمر. الأفضل لك أن تركّز على ما ستقوله للينين”. يرفض شالابين، فيقول غوركي: “افعل ما بدا لك، لكن قل له على سبيل المثال إن موهبتك تنمو وتتألق في ظل حكم العمال”.
يضحك شالابين ساخراً، لكن يبدو أن هذه النصيحة أخّرت هجرته إلى الولايات المتحدة مع زوجته ماريا فالنتينوفنا لنحوم 9 سنوات، إلى أن اجتمع “سوفناركوم” (مجلس مفوضي الشعب) في 24 آب/أغسطس 1927، وحرمه من لقب فنان الشعب الأول.
مع ستالين
طال الغموض كذلك المرحلة الأخيرة من حياة غوركي، ويحلو للبعض أن يصوّره ضحية لستالين، وأنه خضع للمراقبة الصارمة من أجهزة الاستخبارات السوفياتية، حتى قيل إنها هددته وهددت عائلته، لكن الحقائق تظهر أن صداقة ما جمعت بين ستالين وغوركي، وخصوصاً أن الكاتب كان ينظر إلى الواقع السوفياتي على أنه مختبر ضخم لإعادة صنع الإنسان، وكان محل إعجاب عميق من قبل الزعيم، وكل ما سيق عن محاصرة غوركي وترهيبه قد لا يكون له نصيب من الصحة.
فلنتأمل في لقاءين مُعلنين بين يوسف فيساريونوفيتش وغوركي. اللقاء الأول جسّدته لوحة الفنان السوفياتي أناتولي ياركرافتشينكو (1911 – 1983) التي رسمها عام 1949 “مكسيم غوركي يقرأ لستالين ومولوتوف وفوروشيلوف قصته “الفتاة والموت” في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1931″. في ذلك اللقاء، قال ستالين: “هذا العمل أقوى من فاوست غوته (الحب ينتصر على الموت)”.
اللقاء الآخر كان في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1932، في اجتماع مع أعضاء اتحاد الكتاب السوفيات، حين قال ستالين عبارته التاريخية، واصفاً الكتّاب بأنهم “مهندسو النفوس البشرية”.
نظرة الأدباء
بعيداً من الغموض حول شخصية الكاتب وعلاقته بالبلاشفة بعد الثورة، يمكن الركون إلى آراء الأدباء، من زملاء غوركي ومعاصريه، في ما يتعلق بالمنتج الأدبي. نراهم ينظرون باحترام كبير وإعجاب عظيم تجاهه. ها هو رائد القصّة القصيرة أنطون بافلوفييتش تشيخوف (1860-1904) يصف موهبة مكسيم غوركي بأنها “حقيقية” و”صاخبة”.
يسميه أحد رموز المدرسة الرمزية ألكسندر ألكسندروفيتش بلوك (1880-1921) بـ”الفنان الروسي”، ويراه الناقد الأدبي والشاعر فلاديسلاف فيليتسيانوفيتش خاسيفيتش (1886-1939) كاتباً من المستوى الأعلى، وتكشف لنا رسالة الشاعرة مارينا إيفانوفنا تسفيتييفا (1892-1941) إلى صديقتها أنّا أنطونيفنا تسيكوفا في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1933، إثر حصول الكاتب الروسي إيفان ألكسندروفيتش بونين (1870 – 1953) على جائزة نوبل للآداب، عن تقييمها للأديبين، بالقول: “أنا لا أحتج فقط. أنا أرفض، لأن غوركي أفضل بما لا يضاهى، وأكثر إنسانية، وأكثر إبداعاً، وأكثر أهمية. غوركي يمثل حقبة. أما بونين، فنهاية حقبة”.
اليوم، تفترض الأحداث السياسية أننا في بداية حقبة جديدة متعددة الأقطاب. حتى لو تبلورت بعد حين، فلن تعيد إلى الساحة الأدبية عشرات الأسماء التي شغلت الجمهور عشية الثورة البلشفية، لكن من المرجح أن تزيل جانباً من التجني على بعض الأدباء الذي مكّنهم إنتاجهم الأدبي من أن يكونوا عصيين على الإقصاء أو فصل أدبهم عنهم، ومكسيم غوركي كان أحدهم.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين