اجتمعت عوامل شتى لإذكاء قريحة شعراء وشاعرات الأندلس على السواء، منها الطبيعة الفاتنة للأندلس، التي تمتد فيها الجبال الخضراء وسهول واسعة تجري فيها الأنهار والجداول، وتشدو حولها الطيور والعنادل. ولطالما ربط شعراء الأندلس وصف الطبيعة بقصائد الحب والغزل، وسيلحظ المتابع لتاريخ الأندلس كيف كان الشعر يجري على لسان كثيرات من نسائها، أميرات وجواري، وكيف جمعن الحسن والجمال مع الفصاحة والقدرة على البيان.
تقول الباحثة والشاعرة الاسبانية كلارا خانيس في دراستها بعنوان: «الشعر النسوي في الأندلس»، إن الكتابة والإبداع عند المرأة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توفرت لديها شروط معينة، منها أن تعيش في مجتمع يسمح لها بالمشاركة في الحياة العامة ويوفر لها مستوى ثقافي معين، ويضمن لها حرية القول، والبوْح والتعبير، وتؤكد الباحثة أن المجتمع الأندلسي كان من أكثر المجتمعات انفتاحًا وتسامحًا في القرون الوسطى.
الأمر نفسه هو ما يذهب إليه الدكتور مصطفى الشكعة، في كتابه «الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه»، إذ يؤكد أنه وعلى الرغم من ظهور شاعرات في المشرق العربي إلا أن عددهن قليل بالمقارنة بشاعرات الأندلس، وقصائدهن محدودة فضلًا عن خضوعهن لتقاليد لم يستطعن تعديها مهما بلغ انحلال المجتمع في فترات معينة، ظل المجتمع المشرقي العربي يحاسب المرأة على قولها وفعلها.
وتستشهد كلارا برأي الباحث الإسباني أدولفو فديريكو شباك الذي يقول: «إن الحرية التي تمتعت بها المرأة العربية في الأندلس فاقت الحريات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الإسلامية الأخرى، فكانت المرأة الأندلسية ترتاد المدارس والأكاديميات والمعاهد التي تميزت بها قرطبة في ذلك الحين، فتتعلم فيها الفنون، والآداب المختلفة، والعلوم، وهكذا جرى الشعر على لسان الأندلسيات وتركن تراثًا كبيرًا من القصائد كان فقط بعض ما قلنه».
لم ينحصر ما كتبته شاعرات الأندلس في موضوعات الحب والغزل، بل تعداه إلى موضوعات أخرى مثل المدح والهجاء ووصف الطبيعة، ولم يقتصر الشعر على طبقة معينة، بل كان منهن الأميرة والجارية. نستعرض فيما يلي بعض هذه الأشعار، وسيرة النساء اللاتي كتبنها.
حسانة التميمية.. أولى الشاعرات الأندلسيات
كانت أولى شاعرات الأندلس وأسبقهن إلى قرض الشعر. ولدت حسانة بنت أبي الحسين الشاعر في البيرة بمدينة غرناطة، خلال إمارة صقر قريش عبد الرحمن الداخل، وكان والدها من الشعراء فتعلمت على يديه.
إِلى ذي الندى والمجدِ سارت ركائِبي
عَــلى شــحــط تـصـلى بـنـار الهـواجـرِ
ليــجــبــر صَــدعــي إنّه خــيــر جـابـرٍ
ويـمـنـعـنـي مِـن ذي الظـلامـة جـابـرِ
كتبت إلى الحكم الربضي تشكو إليه غدر الزمان بها حين مات أباها عائلها الوحيد، وبعد وفاة الحكم لم يستجب جابر بن لبيد عامل البيرة – بلدها – لما أوصى لها به الحكم الربضي، فكتبت إلى عبد الرحمن الأوسط تشكو إليه تعرضها للظلم، وتستهل قصيدتها بمدحه، وقد تنوعت قصائدها بين الرثاء والشكوى والمدح.
عائشة بنت قادم القرطبية
تنتمي عائشة القرطبية لبني قادم، أحد البيوت المعروفة في قرطبة، وكانت شاعرة وأديبة قال عنها المؤرخ الأندلسي ابن بشكوال إنه لم يكن في جزائر الأندلس في زمانها من يعدلها فهمًا، وعلمًا، وأدبًا، وشعرًا، وحصافة، وكانت تمدح الملوك وتخاطبهم في حاجتها وتشفع لديهم أحيانًا فلا تُردّ شفاعتها، وكانت تملك مكتبة كبيرة ساعدتها ثروتها في جمعها.
أراكَ اللهُ فيه ما تُرِيدُ
ولا بَرِحَت معاليه تزيدُ
فقد دلَّت مَخَايِلُهُ على ما
تُؤَمّله، وطالعه السعيدُ
تشوّقت الجيادُ لهُ وهَزّ ال
حسامُ هوى وأشرقت البنودُ
الغسانية البجانية الشاعرة
كانت الغسانية من شاعرات الأندلس في القرن الخامس الهجري، ولم تشر المصادر إلى اسمها، ووصلتنا عنها قصيدة واحدة، بينما ضاعت قصائدها الأخرى مثل كثير من شاعرات الأندلس، اللاتي نعرف أسمائهن فقط دون أن نعرف ما كتبن من قصائد، وعُرفت الغسانية بقول الغزل العفيف بأسلوب عذب.
أتجزع إن قالوا سترحل أظعان
وكيف تطيق الصبر ويحك إذ بانوا
وما هو إلا الموت عند رحيلهم
وإلا فعيش تجتني منه أحزان
حفصة الحجارية تطرق باب الغزل
كانت حفصة بنت حمدون الحجارية رائدة شعر الغزل، وهي أول من فتح باب الغزل للشاعرات من بعدها، وكما يقول المقري في نفح الطيب فقد طرقت حفصة الباب بخفة وتردد وتحفظ، عاشت في القرن الرابع الهجري ولم تذكر المصادر نسبها، ونسبتها فقط إلى وادي الحجارة، وكان لها شعر كثير لم يصل إلى أيدينا سوى القليل منه، ويبدو أنها كانت من الحرائر إذ تشير في قصائدها إلى عبيدها، كما اشتهرت بالجمال والحسب.
لَهُ خلق كالخمرِ بعد اِمتزاجها
وَحسن فَما أحلاهُ من حين خلقته
بِوجهٍ كمثلِ الشمس يدعو ببشرهِ
عيونًا ويعشيها بإِفراطِ هَيبته
أُعجبت حفصة بشخص كنّته بابن جميل، وراحت تصف في أشعارها جمال خلقته وحسن أخلاقه وتلهفها للقائه، ثم وصفت حزنها لفراقه واعتدادها بنفسها.
زينب المرية.. تجالس الشعراء وتباريهم
وكانت زينب المرية شاعرة من الحرائر وابنة أحد مشاهير العرب، ولدت بالمرية أيضًا وعُرفت بحسنها وشعرها البديع وكانت تجالس الشعراء وتباريهم.
يـا أيّهـا الراكبُ الغادي مطيّته
عـرّج أنـبّـئك عـن بـعـض الذي أجدُ
مـا عـالج الناس من وجدٍ تضمّنهم
إلّا ووجدي بهم فوقَ الذي وجدوا
حَــسـبـي رضـاه وإنّـي فـي مـسـرّتـه
وودّه آخـــر الأيّـــام أجـــتـــهــدُ
الأميرة أم الكرام.. شاعرة من داخل قصر الحكم
من قلب قصر الحكم، كانت الأميرة أم الكرام بنت المعتصم ابن صمادح، التي تنتمي إلى بني تجيب، شاعرة مبدعة أيضًا، وكان والدها من أهل الأدب، ورُوي عنه قول الشعر في مناسبات عدة، وقصده الأدباء والشعراء، واعتنى الملك بتأديب الأميرة فحفظت الشعر، وعُرفت بالفصاحة، وكتبت الشعر والموشحات، وكذلك كان إخوتها، وعشقت أم الكرام الفتى المشهور بالسّمار، وكان من فتيان قصر أبيها، فقالت فيه شعر الغزل.
يا معشرَ الناسِ أَلا فاِعجبوا
مــمّــا جــنــتــهُ لوعــة الحــبِّ
لَولاه لَم يـنـزل ببدرِ الدجى
مِــن أفــقــهِ العــلويّ للتــربِ
حَــســبـي بـمـن أهـواه لو أنّه
فــارَقــنــي تــابــعــه قــلبــي
عُرفت أم الكرام بذكائها ونبوغها، وبرقة شعرها وحسن تعبيرها وكانت تصنع التواشيح التي لا يتأتى إلا لشاعر ذي قدرة وموهبة أن يصنعها، لما تحتاجه من تشطير وترصيع.
حفصة الركونية.. عاشقة الوزير الشاعر
عُرفت حفصة بالجمال والحسب والمال، وهي تنتسب إلى قرية الركونة – إحدى قرى غرناطة – وقد وصف لسان الدين بن الخطيب جمالها وتميزها وثقافتها الواسعة في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، وتشبه حياتها حياة ولادة بنت المستكفي، جمعتهما الصفات والطباع ذاتها، وجمعتا الحسب والجمال والثراء إلى الموهبة الشعرية، فأحبت حفصة الوزير أبا جعفر ابن سعيد، كما أحبت ولادة ابن زيدون، وكتبت تصف شوقها إليه.
أَزوركَ أَم تـزور فـإنّ قلبي
إِلى مـا تـشتهي أبدًا يميلُ
فَــثَــغــري مـورد عـذب زلال
وَفــرع ذُؤابــتـي ظـلٌّ ظـليـلُ
وتعددت قصائد الركونية إلى الوزير، ورسائلها إليه مع جواريها، ولم يكتب للعاشقين زواج، فلقي أبو جعفر مصرعه قتيلًا ورثته الركونية في قصائد حزينة، واستحالت حياتها بعده فظللها الحزن، ورحلت عن غرناطة إلى مراكش لتعيش في حماية السلطان المغربي.
شاعرات قصر المعتمد
كان في قصر المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية من الشاعرات، اعتماد الرميكية زوجته وابنتهما بثينة التي ورثت حسن والدتها وقريحتهما الشعرية العذبة، عرفت الرميكية المعتمد في إحدى جولاته، وكانت قريحتها الشعرية أول ما لفت نظره إليها.
نظمت بثينة الشعر في نكبة بني عباد التي ألحقها بهم المرابطون، وقد نال الأميرة قسط كبير منها، إذ أذهلها أن فتحت عيونها يومًا على نهب القصر وغياب من فيه من أهلها، ووقعت في الأسر وبيعت جاريةً دون أن يعرف أحد نسبها.
اسمع كلامي واستمع لمقالتي
فهي السلوك بدت على الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني
بنت لملك من بني عباد
*من شعر بثينة بنت المعتمد
الجواري يلقين الشعر أيضًا
شهدت المرية يقظة أدبية ونهضة شعرية في عصر بني صمادح، فقالت نساء من طبقات المجتمع المختلفة شعرًا رقيقًا وقصائد مبدعة.
قُدّمت جارية إلى المعتصم بن صمادح ملك المرية في القرن الخامس الهجري ليختبرها قبل أن يشتريها، وكان يحب أن تكون قيانه شاعرات، فسألها: ما اسمك؟ أجابت: غاية المنى، فقال لها: أجيزي، اسألوا غاية المنى، فقالت في رقة وسرعة بديهة: من كسا جسمي الضنا، وأراني مُولّها، سيقول الهوى أنا.
قال عنها القاضي أبي القاسم بن حبيش إنها جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة.
سيريا هوم نيوز /4/ اوقات الشام