علي حسن مراد
في الـ20 من حزيران الفائت، وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أمام أنقاض أحد المباني المدمّرة التابعة لـ«معهد وايزمان للعلوم»، مدّعياً أن «هذا هو الفرق بيننا وبينهم، نحن نفعل كلّ ما في وسعنا لتحييد المدنيين، بينما هم يقصفون منشآتنا المدنية». على أن التدقيق في تاريخ نشأة معهد «وايزمان» وعمله، لا ينزع صفة المدنية عنه فحسب، بل يؤكّد أنّ الصاروخَين اللذَيْن نجح الإيرانيون في إيصالهما إلى قلبه، لم يصيبا العقل العلمي الصهيوني فحسب، بل قلب الدور الوظيفي الذي أراده حاييم وايزمان لصالح الغرب الجماعي.
في كتابه «حاييم وايزمان: صناعة زعيم صهيوني»، يورد المؤرّخ الصهيوني، يهودا راينهارز، أن حاييم وايزمان استخدَم، في العقد الثاني من القرن العشرين، مكانته كعالم بارز في الكيمياء لتعزيز موقعه السياسي في بريطانيا، ولتسويق فكرة أن «اليهود يمكنهم أن يسهموا في التقدُّم العلمي للدول الكبرى»، وبالتالي يصبح لهم «حق» سياسي ومعنوي في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. يمكن القول إن أفكار وايزمان الصهيونية التي تبلورت وناقشها مع زملائه في المؤتمرات الصهيونية الأحد عشر، بين عامَي 1897 و1913، حصلت على فرصة الانتقال من التنظير السياسي إلى المنحى التطبيقي، ربطاً بمسيرة الرجل العلمية في بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى.
يروي وايزمان، في مذكّراته «التجربة والخطأ»، كيف ساهمت أبحاثه الكيميائية حول التخمير البكتيري وإنتاج «الأسيتون» الصناعي، في إتاحة الفرصة أمامه للتعرّف إلى وزير البحرية وينستون تشرتشل، ولاحقاً وزير الذخائر لويد جورج، ووزير الخارجية آرثر بَلفور. ففي عام 1915، برزت حاجة البحرية البريطانية إلى مادة «الأسيتون» (تُستخدم كمذيب في إنتاج الذخائر، وتحديداً الكوردَيت)، التي كانت تعاني نقصاً كبيراً فيها، شكّل عائقاً أمام استمرار إنتاج الذخائر؛ وهو ما حدا بوزارة الذخائر البريطانية إلى التواصل مع وايزمان، الذي أبدى استعداده للتعاون معها، مؤكداً أنه قادر على تزويدها بكميات كافية من المادة، من خلال تطبيق طريقته الجديدة.
هكذا، بدأ وايزمان ترجمة فكرته على نطاق صناعي، متولّياً مهمة التنسيق العلمي والإشراف على التنفيذ، في حين وضعت الحكومة يدها على معامل تصنيع الكحول وتقطيرها، محوّلةً إياها إلى مصانع خاصة لإنتاج «الأسيتون»، ومجنّدةً عدداً من المهندسين والعمّال للغرض نفسه. ومع الوقت، تمكّنت بريطانيا من تأمين كميات كافية من «الأسيتون»، ما ساعد في استمرار تصنيع الذخائر ودعَم المجهود الحربي للأسطول البحري البريطاني بشكل فعّال.
أنقر هنا لكبير الجدول
أنقر هنا لتكبير الجدول
وأدّى ذلك إلى حصول وايزمان على تقدير واسع من قِبل المسؤولين البريطانيين، وفتح له أبواباً إلى دوائر النفوذ السياسي، حيث التقى لاحقاً بشخصيات من مثل لويد جورج، وبلفور. ولم تمثّل هذه التجربة نقطة تحوّل في حياة وايزمان العلمية فحسب، بل شكّلت أيضاً تمهيداً حاسماً لدوره السياسي في تعويم المشروع الصهيوني وتسويقه، كمقدّم خدمات يضمن مصالح الغرب الجماعي، وهو ما ساعده لاحقاً في الدفع نحو إصدار «وعد بلفور».
رأى وايزمان أن العلم هو وسيلة فعّالة لتحقيق التبنّي الغربي للمشروع الصهيوني، محاولاً إظهار قدرة اليهود على الإسهام في التقدّم العلمي الغربي، وبالتالي استحقاقهم لـ«وطن قومي» يهودي تقوده النخبة المثقّفة والعلمية في فلسطين. ولعلّ جزءاً من استراتيجية الرجل كان بناء نموذج يهودي حديث يناقض الصورة النمطية التي سادت في أوروبا الشرقية، ليُثبت للغرب أن اليهود يمكن أن يكونوا روّاداً في العلوم والتحديث إذا ما توفّرت لهم الأرض والدولة والمؤسسات؛ فعمل على تحقيق حلم تأسيس «الجامعة العبرية»، بالشراكة مع صديقه ألبرت آينشتاين.
لكن بعد تأسيس الجامعة عام 1918، اكتشف وايزمان شيئاً فشيئاً أن التوجّهات العلمية المتباينة تعيق تطبيق رؤيته؛ إذ خاب أمله من البرنامج العلمي في الجامعة العبرية، التي اشتكى من ميل مجلس أمنائها وهيئات التدريس فيها إلى تعويم برامج الدراسات الإنسانية على حساب الدراسات العلمية التطبيقية، وهو الذي كان اصطدم برفض تأسيس قسم للكيمياء الحيوية في معهد «التخنيون» مباشرة بعد تأسيسه عام 1913، فاتّخذ قراراً بتأسيس معهده الخاص لتجاوز «البيئة البيروقراطية المُحبِطة»، بحسب ما ذكر في مذكّراته.
في صيف عام 1933، بدأ حاييم وايزمان مشوار البحث عن مموّلين لتأسيس معهده، فوجد ضالّته لدى زوجة الصناعي اليهودي دانيال زيف – الذي كان توفي عام 1932 – وأبنائه. وبعدما تعهّد وايزمان بتسمية المعهد على اسم دانيال، حصل على منحة تأسيسية قدْرها 50 ألف جنيه إسترليني، ليتأسّس بذلك «معهد دانيال زيف للأبحاث» على أراضي مستوطنة «روحوفوت» المقامة على أراضي خربة ديران الفلسطينية.
وفي الثاني من تشرين الثاني 1949، وعشية الذكرى الثانية والثلاثين لـ«وعد بلفور»، أُعلن عن التوصّل إلى اتفاق بين حاييم وايزمان وعائلة دانيال زيف لتغيير اسم المعهد، ليحمل اسم وايزمان، الذي كان قبلها بخمسة أعوام قد ضمن قناة تمويل ضخمة من متبرّعين يهود في الولايات المتحدة، عبر ما سُمّيَت «اللجنة الأميركية لمعهد وايزمان للعلوم».
تُظهِر بيانات التمويل الأجنبي لمعهد «وايزمان»، بين عامَي 2001 و2025، أنّ أغلب الأموال أتت من الولايات المتحدة
وبعد وفاته عام 1952، تحوّل «معهد وايزمان للعلوم» إلى صدارة المشهد العلمي في كيان العدو، مع إعلان تصنيع أول كمبيوتر فيه عام 1954. وفي العام نفسه، حقّق المعهد قفزة كبيرة في تصدّر المشهد العلمي الصهيوني، مع تأسيس قسم خاص للفيزياء النووية، وبدء تأسيس المشروع النووي الإسرائيلي. واستناداً إلى تقرير سرّي صادر عن السفارة الأميركية في تل أبيب، بتاريخ الـ9 من نيسان 1965، يتبيّن أنّ معهد «وايزمان» ارتبط بشكل غير مباشر، ولكن جوهري، بالبنية التحتية الإسرائيلية الأوسع المرتبطة بالتطوير النووي، ولا سيما من حيث الكفاءة العلمية، والاستثمار الرأسمالي، وتوزيع الكوادر البشرية. وتؤكّد الوثيقة الأميركية أن الكيان كان لديه (في حينه) 200 عالم نووي، 55 منهم عملوا في «وايزمان».
كما أظهرت عملية تتبّع التمويل الخاص بالمعهد، أن الغرب الجماعي يتعاطى معه ليس كمجرّد صرح أكاديمي مستقلّ، بل كمؤدٍّ لوظيفة مبرمجة ضمن هندسة المشروع الصهيوني ذاته، أي تكريس الوجود الاستيطاني اليهودي في فلسطين كحاجة علمية للبنية الغربية، وليس كمجرّد واقع استيطاني.
أيضاً، تُظهِر بيانات التمويل الأجنبي لـ«وايزمن»، بين عامَي 2001 و2025، أن أغلب الأموال أتت من الولايات المتحدة؛ إذ تشير بيانات المؤسسة المُسجَّلة في وزارة الخزانة الأميركية باسم المعهد (Weizmann Institute for Science) ضمن خانة المؤسسات الأميركية التي لا تبغي الربح (مُسجّلة منذ عام 2004)، إلى أن الأخير حصل، بين عامَي 2004 و2023، على 10.935 مليار دولار من متبرّعين أميركيين.
وهكذا، فإن الجزء الأكبر من المبلغ، يجري تحصيله عبر المؤسسة المُسجّلة باسم «كلية فاينبرغ للدراسات العليا» التابعة لـ«وايزمن»، والتي حوّلت بين عامَي 2001 و2023، 2.6 مليار دولار، من بينها قرابة مليارَي دولار ضُخَّت عبر «اللجنة الأميركية لمعهد وايزمان»، بي عامَين 2002 و2023. وبحسب بيانات خدمة الإيرادات الداخلية في وزارة الخزانة الأميركية، جرى التصريح عن تأسيس «اللجنة الأميركية لمعهد وايزمان» عام 1947 (لكنها كانت تجمع المال للمعهد منذ عام 1944)، وكذلك مؤسسة «كلية فاينبرغ للدراسات العليا» التي جرى تسجيلها في وزارة الخزانة عام 1967.
أمّا الاتحاد الأوروبي، فتُظهِر البيانات ضخّه، بين عامَي 2007 و2024، ما يقارب الـ477 مليون يورو، أغلبها ذهب لتمويل مجالات بحثية متعدّدة شملت الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأحياء الدقيقة، مع تركيز كبير على مشاريع متعدّدة التخصّصات، وما تُسمّى منح Starting Grants، ما يعكس اهتماماً برعاية الباحثين الشباب لإنتاج معرفة قابلة للتحويل لاحقاً إلى تطبيقات صناعية أو تقنية.
أمّا كندا، فقدّمت أكثر من 139 مليون دولار، فيما يمكن اعتبار التمويل البريطاني والفرنسي والأسترالي رمزياً من حيث الحجم، لكنّ دلالته السياسية بالغة. وإلى جانب التمويل المُحصَّل من جهات خاصة أميركية، ضخّت الحكومات الأميركية المتعاقبة، بين عامَي 2008 و2025، ما يقارب الـ70 مليون دولار أميركي عبر «البنتاغون»، ضمن عقود لصالح البحرية وسلاح الجو الأميركيَّيْن و«وكالة الحد من التهديدات الدفاعية» في مجالات البحث والتطوير في التكنولوجيا الحيوية، والأبحاث التطبيقية والتطوير الاستكشافي. وبالإضافة إلى ذلك، مُنحَت للمعهد عقود بملايين الدولارات من قبل وكالة «USAID»، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة الطاقة، ومؤسسة العلوم الوطنية «NSF».
وممّا تقدّم، فإن قصف القوات المسلّحة الإيرانية معهد «وايزمان» لا يُقاس بأضرارٍ لحقت بمبنى أو معدّات، بل بما أصاب جوهر الدور الوظيفي الذي يؤدّيه كيان العدو، كامتداد علمي وتقني للغرب الجماعي في قلب منطقتنا؛ علماً أن المعهد المذكور، منذ لحظة تأسيسه، لم يكن مجرّد صرح أكاديمي، بل مثّل مختبراً لديمومة الهيمنة الغربية عبر المشروع الصهيوني؛ وما استهدافه من قِبَل إيران الشهر الماضي، إلا رسالة حادّة مفادها أن الدور الوظيفي للكيان الذي تحاول واشنطن إعادة ترميمه، منذ السابع من أكتوبر 2023، تعرّض لأضرار بات من الصعب إعادة ترميمها، كما الزجاج الذي يفقد قيمته عند تهشّمه.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار