عبدالحميد البجوقي
تأخّرتُ في قراءة هذا النص، لا لبرودةٍ في الرغبة، بل لأن لائحة الكتب والإصدارات التي تتكدّس على هامش الزمن أطول دائمًا من قدرتنا على التهامها، مهما كانت الشهية مفتوحة. لم تكن كتابة هذه الانطباعات مُبرمجة ولا حاضرة بالضرورة، غير أن النص نفسه، بما يحمله من جرأة وسلاسة ووعيٍ مغاير، أوحى لي بضرورة التوقّف عنده والكتابة عنه؛ لا من باب الواجب النقدي، بل من باب الإعجاب الذي يفرض الكلام.
لا أتلمَّسُ في هذا النصّ الرحلي الذي يقدّمه الباحث الجريء أشرف بولمقوس «رحلة» بالمعنى الكلاسيكي الذي يكتفي بتدوين المشاهد والانطباعات، بل مشروع كتابة يُعيد مساءلة المكان، والتمثلات، والسلطة، والذاكرة من خلال عين مغاربية، شمال إفريقية واعية لا تبحث عن الدهشة السطحية، بل عن تفكيك الدهشة نفسها.
بداية بغلاف الكتاب بوصفه عتبة دلالية لا نجده محايدا، اللافتة التي تشير إلى Africa، المترو العابر، الأهرامات الراسخة، الوجوه الشعبية، وسيارة الأجرة القديمة… كلها عناصر تتجاورُ دون أن تنصهر. هذا التركيب أو التراكب البصري يُلخّص روح الكتاب، يصِلُنا بعمق مصر باعتبارها مفترقًا لا مركزًا واحدًا، طبقات من التاريخ تتحرك فوق بعضها دون انسجام كامل.الغلاف يُهيئ القارئ منذ البداية لرحلة ليست سياحية، بل رحلة اكتشاف، وعي واصطدام.
من خلال المقاطع المُصوَّرة، نلاحظ لغة واضحة، مباشرة، لكنها غير بريئة. الكاتب يعتمد جُملاً هادئة وبريئة في ظاهرها، غير أن مضمونها ينزلق تدريجيًا إلى نقد ثقافي واجتماعي حاد.
في فصل “جنون العظمة المصري”ص 29 مثلًا، لا يسخر الكاتب، ولا يهاجم، بل يصف بدقة ملاحِظة وفاحِصة كيف تتحول الألقاب واللافتات إلى ممارسة يومية للهيبة الرمزية، وكيف تُصبح اللغة نفسها أداة تضخيم للذات، فرديًا وجماعيًا.
في الفصل الذي يحمل عنوان ” فخ الأهرامات” ص49 ،يعمل الكاتب بسلاسة على تفكيك الأسطورة دون النيل من عظمتها، هذا الفصل من أكثر الفصول إثارة، لأنه يُكسر واحدة من أكثر الصور استهلاكًا في المخيال السياحي العالمي.
الأهرامات هنا ليست رمز العظمة فقط، بل فخًا بصريًا وثقافيًا، فخ المسافة، فخ للتسويق، وفخ الصورة الجاهزة.
ينجح الكاتب أشرف بولمقوس في نقل القارئ من الصورة المثالية إلى الواقع المحيط، العشوائية، الفقر، الفوضى، والاقتصاد الموازي الذي يعيش على هامش المعالم الحضارية.
القيمة هنا ليست في فضح الواقع، بل في إعادة توطين الأهرامات داخل سياقها الاجتماعي الراهن، لا كأيقونة معزولة.
فصلٌ آخر محوري في هذا النص الرحلي البديع، هو الفصل الذي يحمل عنوان ” مصر لا تنام إلا بإذن السلطة ” ص73، في هذا الفصل، تتضح جرأة النص حيثُ الرحلة تتحول إلى قراءة سياسية للمكان:
الليل، الحركة، الضجيج، التوقف، مشاهد لا تُقرأ باعتبارها مظاهر حياتية فقط، بل باعتبارها خاضعة لمنطق التحكم.
هنا ينجح أشرف بولمقوس في إدخال سؤال السلطة إلى أدب الرحلة، يُدرجها بسلاسة عبر التفاصيل الصغيرة، بداية بالإيقاع، المراقبة إلى الإحساس غير المرئي بالحدود.
“مصر… هند شمال إفريقيا” ص67، في هذا الفصل نتلمَّسُ تكسيرا أنيقا للجغرافيا الذهنية، هذا العنوان وحده كافٍ لإعلان نية النص في هدم الخرائط الجاهزة.
الكاتب يقترح تشبيهًا حضاريًا لا يقوم على الفلكلور، بل على التناقضات الصارخة، على الكثافة البشرية، على التعايش بين الفقر المُدقع والرمزية والقُدرة على الاستمرار رغم الاختلال. تشبيه ذكي، يستفز القارئ، ويدفعه إلى إعادة التفكير في موقع مصر الحضاري خارج القوالب التقليدية (عربية/إفريقية/شرق أوسطية).
ما يُميّز النص في مجمله هو كسره لقواعد أدب الرحلة التقليدي، لا خط سير واضح، لا انبهار ساذج ولا ذات رحّالة متعالية، بل ذات كاتبة، تراقب، تتورط وتُراجع مسلّماتها.
الفصول القصيرة بدورها تمنح النص إيقاعًا معاصرًا، قريبًا من القارئ، دون أن تُفقده العمق، والخلاصة في تقديري أن هذا النص الجميل الممتع يتميز بأربعة خاصيات مُثيرة وواعدة:
-
يعيد لأدب الرحلة وظيفته النقدية
-
يكتب مصر خارج الاستهلاك السياحي
-
يقترح صوتًا مغاربيًا جريئًا في قراءة المشرق
-
يجمع بين السلاسة والأسئلة الثقيلة والمُحرجة.
بعيدا عن المجاملة والمُحاباة، أجزمُ أن هذا النص يحمل قدرا كبيرا من الإبداع، والتجديد في كتابة النصوص الرحلية التقليدية، نص ينقلنا من النمودج التقليدي القديم لأدب الرحلة إلى مسار الرحلة بوصفها معرفة نقدية ، لا مجرد وصف..
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم
syriahomenews أخبار سورية الوطن
