سمير التقي
كلنا في الهم شرق. كلنا على الطريق من الدولة الطائفية إلى الدولة الوطنية، بل يتقد العراق بخطى عسيرة ومضنية.
فلقد عاد العراقيون إلى صناديق الاقتراع بالاستحقاق السادس منذ 2003، أملاً في دولةٍ محايدةٍ تقف فوق حماقة الصراعات الطائفية، وتُدار بقانونٍ واحد، وجيشٍ مهنيٍّ بعيد من العقيدة والسياسة ومنطق أمراء الحرب والتكسب الريعي. جيش لا يخضع، إلا لقيادته المدنية الدستورية المنتخبة، وقضاءٍ مستقلٍّ لا تُغريه ولا تهدده أثقال السياسة، وبرلمانٍ يُشبه المجتمع الذي يتطلع إليه جمهور الشباب، أكثر مما يُشبه خرائط الطوائف.
تبدو إرهاصات التفاؤل عديدة وموضوعية!
إذ تكشف الانتخابات عن ارتفاع مفاجئ للمشاركة قياساً بعام 2021، وتقدّم قائمة محمد شياع السوداني، بما يوحي أن البلاد تقطع خطوةً جديدة في اتجاه استقرارٍ وظيفيٍّ قد يتحول إلى بناءٍ مؤسسيٍّ أكثر صلابة. وبينما تدور نخب سياسية عتيقة حول ذاتها ومنطقها الطائفي، سيكون أمام السوداني ماراثون تفاوضي طويل، في حلبة ستختبر صدقية المجتمع السياسي العراقي.
سيحاول السوداني تأمين ثلاث مهمات:
1. تحقيق قواعد تنافسٍ واضحة بين القوى البرلمانية لا تُصنع على مقاس اللحظة.
2. تسويات وتوازناتٌ ذات مغزى داخل المعسكرات الكبرى.
3. ضمان قدرة الدولة على تنظيم العلاقة بين السياسة والسلاح، بحيث لا تنتقل الأزمات من طاولة التفاوض السياسي إلى الشارع.
أثبتت قائمة السوداني، أنها الأكثر تنظيماً وامتداداً على النطاق الوطني، بما يسمح بإيقاع تفاوضيّ مريح، حتى لو لم يبق السوداني لولايةٍ ثانية. فالتقليد العراقي الراسخ يجعل الاختيار النهائي نتاجاً لمساومات “البيت الشيعي” أولًا، قبل أن يمتدّ إلى الشركاءٍ الأكراد والسُنّة، مع حسابٍ دقيقٍ لنبض الخارج.
في المقابل، يحافظ نوري المالكي على كتلةٍ صلبة، لعصبيات حزبية وطائفية وشبكات نفوذٍ عتيقة. لكن طريقها إلى رئاسة الحكومة يمرّ بمضائق عدة: الانشقاقات داخل “الإطار التنسيقي”، صعوبة تحالفها مع المكوّنين الكردي والسنّي، ناهيك بالتوجهات الإقليمية والدولية التي ترجح استمرارية السوداني.
على هوامش التفاوض على تشكيل الحكومة، تتحرك قوائم شيعية وسطية ذات خطابٍ وطني معتدل، تحاول لعب دور “بيضة القبّان”. وبالمقابل، يدرك الحزبان الكرديان الرئيسيان أن وزنهما النوعي سيتحدد بقدرتهما على تنسيق مواقفهما، بدلاً من الفتور الراهن. بين القوى السنية، تتنافس قوائم كبيرة مع قوى محلية اكتسبت وزناً في الانتخابات البلدية، وتراهن على تحويل النفوذ المحلي إلى أوراق تفاوضٍ اتحادية.
لكن السياسة لا تُقاس بالهندسة الاستراتيجية وحدها، بل بحراك القوى الصاعدة في المجتمع. يحاول تيار السوداني استخدام هذه القوى الصاعدة لإرساء قواعد الدولة المدنية. وأولاً من خلال حياد الدولة واحتكارها للعنف القانوني، وهي مهمةٌ لا تُنجزها التصريحات، ولا منطق القوة، بل عملية تفاوضية تجترح قواعد السلم الأهلي وتعزز وحدة البلاد لتصبح الدولة جسماً حيادياً، يكون فيها الولاء للدستور، وليس لأي عنوان سياسي أو طائفي. هذا في بلد لم يتمكن الى الآن من توحيد الرواتب، ولا يخضع فيها الأداء العسكري والأمني لتقييمٍ حيادي.
رغم أن القضاء العراقي اكتسب في السنوات الأخيرة وزناً سياسياً ودستورياً معتبراً، بل شكّلت أحكامه صمام أمانٍ نسبياً في محطات حساسة كادت أن تنفلت فيها الأمور في البلاد. لكن سيتوجب على السوداني ضمان حماية أكبر للقضاء، ودعم بنيته العلمية القانونية، وإلزام الجميع سلطته، سلطةً وأحزاباً.
وبعد، فلئن أعادت تعديلات القانون الانتخابي الاعتبار الى الدوائر الكبرى والكتل العريضة، أملاً في استقرار سياسي نسبي، إلا أنها تضيّق بشكل سلبي جداً فرص المستقلين والقوائم المحلية كعامل حيوي لتعديل توازنات القوى الكبرى.
إذن، تنفتح الآن سيناريوهات عديدة أمام العراق؛ إذ يمكن من جهة أن يستمر السوداني في موازنة محسوبة مع الأكرادٍ والسُنّة. ويمكن أن يذهب نحو ائتلافٍ أعرض يُقوّي آليات الرقابة البرلمانية ويفتح منافذ أمام المستقلين، أو أن تدخل البلاد في حالة انسداد أفق تفاوضيٍّ، يُطيل عمر الفراغ السياسي المستديم. بل إن ما سيحسم هذه السيناريوهات ليست الشعارات، بل قدرة القوى العراقية على أن تُطمئن المجتمع الى المهمة المركزية، ألا وهي مكافحة الفساد وتحسين الخدمات.
تاريخياً، يمكن القول إن تلك البلاد التي نجحت في الانتقال نحو بناء الدولة الوطنية بعد الحروب الداخلية، مثل إسبانيا بعد فرانكو، وجنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري، وإندونيسيا بعد سوهارتو، وأيرلندا الشمالية بعد اتفاق الجمعة العظيمة، لم تصل إلى شاطئها الآمن دفعةٍ واحدة. بل بنَت تفاهماتٍ اقتصادية–اجتماعية طوعية وعززت السلطات اللامركزية لتُوزّع الأعباء بالتساوي.
فليس الأمن مجرد حارس بلا خبز، بل يجب ربطه بالاقتصاد، وأن يتم إخضاع الجيش تماماً للسلطة المدنية، ونزع أسلحة التنظيمات طوعاً، عبر عملية سياسية تؤمن التزامات ديموقراطية للمجتمعات المحلية، وترتبط باستحقاقات أمنية قابلة للقياس. نتيجة لعمليات المصالحة والمساءلة، لتُخرج الماضي من حقل الثأر إلى حقل التعلم. بل تعلمنا تجربة تونس أن المؤسسات بلا حرّاس دائمين تكون قابلة للنكوص، وأن التوازنات السياسية إذا اختلّت تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء تماماً.
ويبقى خطر عودة العراق ساحة للصراع الإقليمي.
فما بين إيران التي تلملم خسائرها وتخفف الاحتكاك مع واشنطن على الأرض العراقية، وبين الولايات المتحدة التي تحاول تقليص نشاط الفصائل، وتلوّح بالضغوط السياسية والاقتصادية. وبين تركيا، التي تقوم بدورها العميق الهادئ، ممسكة بالملفاتٍ الحدودية والأمنية والاقتصادية، لن يكون للعراقيين أي أمل، إلا أن يتمسكوا بملكيتهم للقرارهم الوطني.
فكيف يتحول فوزٌ انتخابي إلى دولةٍ تُرى وتُلمَس؟
يجب أن تدخل الحكومة راكضة إلى ساحة مسؤولياتها، لتنجز ميثاقاً وطنياً سياسياً، عابراً للمكونات، يُرسّم خطوطاً حمراء مشتركة: لا سلاح خارج القانون، لا حماية لفاسد، لا تدخل في القضاء.
قد يختلف اسم رئيس الوزراء وقد تتبدّل خرائط التحالفات، لكن معيار النجاح، هو أن تهزم الدولة كل الطوائف، بل أن تهزم دولة الطوائف، لصالح دولة المواطنة.
سيكون التحول مضنياً وصعباً وسيُقاس بصلابة الخطوات لا بعددها. ذلك أن رسالة العراقيين للسياسيين واضحة: النجاح ليس أن تُعلن الانتصار على الانقسام، بل أن تُحوّل إدارة التنوّع من عبءٍ سياسي إلى قيمةٍ دستورية، وأن تُمسِك بخيطٍ رفيع يربط الأمن بالشرعية، والشرعية بالخدمة، والخدمة بمعنى المواطنة.
على فكرة: أليست كل دول الإقليم، في الهم شرق؟
أخبار سوريا الوطن١-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
