سامر الشغري
يستلهم النحات مادته من الطبيعة ثم يعيد خلقها بنفسه، أو هكذا رأى أعظم نحات عبر العصور مايكل أنغلو، لتلهم هذه النظرة في زمننا زميله السوري النحات غسان صافية، الذي وجد متعته الكبرى بتحويل الأحجار الصم وقطع الرخام المتجهمة إلى عمل فني يضج بالحياة.. وفي أحد المحاجر المنتشرة بمنطقة السلّيمة بريف دمشق وجد صافية لنفسه مكانا تحت ظل السماء يتحاور فيه مع هذه الخامات الصلبة، كأنها تدعوه للتحدي واستخراج ما هو جميل ويعبر عن مشاعره من كل ما فيها من كامن وصامت ومن قلب هذا السكون الأبدي، بعد أن أحجمت صالات العرض عن احتضان أعماله وتقديمها للجمهور، لأنه أبى أن يفرض عليه أصحاب هذه الصالات رؤيتهم كما يقول.
بدأ تعلق صافية بالفن منذ الطفولة، عندما كان يزور جده المزارع في ريف سلمية ويشد انتباهه الأحصنة التي كان يمتلكها جده وتبهره حركاتها وقوامها، فجعل يرسمها بقلم الرصاص لمرات كثيرة وفي كل مرة كان يتعلم من أخطائه، حتى أدهشت هذه اللوحات الجد من قدرة غسان الطفل على رسم لوحات تفوق عمره.
نمّى صافية ابن الخمسين عاما شغفه بالرسم، وصار يطلع في المكتبات العامة على أعمال فناني الإغريق وعصر النهضة فانجذب للنحت أيضا، ورغب بالدراسة في كلية الفنون، ولكن رغبة الوالد والوضع المادي للأسرة جعلاه يختار كلية الحقوق، غير أن هذا الاختيار سبب لصافية أكبر معاناة عكرت عليه صفو سنوات شبابه، بأن يدرس نصوص القانون الجافة والصارمة بدلا من عالم الفن المنفتح على الجمال والحرية.
لكن صافية لم يستسلم ، فانتسب إلى معهد أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية، غير أن المفاجأة جاءته من أساتذة المعهد بعد أن أطلعوا على مستواه في التصوير الزيتي فقالوا له: “ما دمت تملك هذه القدرات لماذا تدرس الفن؟ ولماذا تأخذ مقعدا لا تحتاجه وقد ينفع من هو أقل منك مقدرة، عد إلى بيتك وارسم المشاريع المطلوبة منك وسوف تصلك الشهادة؟”، لكن صافية أيضا أثار غيرة بعض الأساتذة، لأنه أخذ دور المدرس لزملائه، وصار يوجههم ويقول لهم كيف يرسمون.
لم يتلق صافية من دروس النحت في المعهد إلا القليل على خامة الطين التي لم تشبع نهمه، فانكب على دراسة معلمه الأول أنغلو وتأثر بتمرده على الواقعية الكلاسيكية وميله للمبالغة ومخالفته للفنانين الإغريق.
ولم تبعده المهارة التي اكتسبها في التصوير الزيتي عن النحت، فظل قدره، وأتيحت له فرصة أن يطور قدراته فيه عندما اشتغل مع نحات على الرخام، وكان يشكل لوحات فيسفسائية حجرية ثم انتقل بعدها للنحت على الحجر والخشب والرخام مبتدئا بمنحوتات صغيرة ثم أكبر حجما ومن الواقعية إلى التعبيرية، وكان يقلد أعمالا لأنغلو حتى استطاع محاكاتها بصورة عالية منها تمثال (بيتتا) الشهير للمسيح والعذراء، ولكن رغم ميله لفناني عصر النهضة فإنه لا يصنف أعماله في إطار الكلاسيكية، بل يصف تجربته بالتعبيرية.
هذا الشغف الكبير- النحت، جعله يقدم على ما يمكن وصفه بالمغامرة، فسافر سنة 2006 إلى إيطاليا معقل هذا الفن ومهد معلميه الكبار، قصده أن يتعلم أكثر ويتعرف على أعمال استاذه الذي لم يره مايكل أنغلو، وهناك عاش فترة طويلة حياة التشرد وعمل كرسام بورتريه في الشوارع ليتكسب من فنه ، ونفذ أكثر من ألفي لوحة بالفحم والكاريكاتير، وصار يتردد على معاهد خاصة لممارسة الرسم عبر الموديل الحي.
وخلال إقامته في إيطاليا تعرف على نحات مخضرم ومعروف اسمه أرنالدو، الذي أعجبته موهبة صافية، فعرض عليه الإقامة عنده والعمل معه، فصنع عشرات المنحوتات واستعد لإقامة معرضه الخاص، ولكن مشكلات عائلية داهمته جعلته يقطع رحلته الإيطالية التي استمرت سنتين، ليعود إلى أرض الوطن تاركا خلفه أعمالا نسبها أرنالدو لنفسه.
نشاط صافية الفني داخل سورية تجلى في مشاركته بملتقيات نحتية ومعارض جماعية في دمشق وحمص، وفي نحته أعمالا نصبية خصصت لكنائس منها تمثال القديس جاوجوريوس، وكان المعرض الوحيد الذي أقامه سنة 2004 في ثقافي أبي رمانة.
واستطاعت أعماله، التي مزجت الواقعية الكلاسيكية بالتعبيرية ، أن تجد لها مقتنين كثرا عبر العالم من وزارة الثقافة في سورية وعند جهات سورية خاصة، وفي أرمينيا وإيطاليا وأمريكا ولبنان. ويعاني صافية، الشغوف بالجسم البشري، بموضوع الموديل، ويضطر بهذا الصدد أن يلعب هذا الدور وبوضعيات مختلفة، ليطبق عليها النسب من خلال إحساسه بالجمال مستعينا بالخبرة. كما يعكف حاليا على إنجاز تمثال نصبي للجندي الشهيد محاكيا قصة السيد المسيح، كأن الطلقة التي اخترقت جسد هذا الجندي تماثل الحربة التي نفذت في جنب المسيح.
( سيرياهوم نيوز4-تشرين )