| علاء اللامي
بلغ الصراع بين الأحزاب الإسلامية الشيعية المتحالفة في «الإطار التنسيقي» والتيار الصدري ذروته في موقعة «الإثنين الدامي»، 29 آب، العبثيّة الأخيرة داخل المنطقة الخضراء. انتهت هذه الموقعة بتسليم الصدر بفحوى فتوى المرجع الديني المقيم في إيران منذ 46 عاماً، محمد كاظم الحائري، والتي منعت الصدر من التصدّي للقيادة لأنه «فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية»، وحوَّلت المسلمين الشيعة العراقيين المقتدين -«المقلّدين» بالمصطلح الفقهي- بالحائري، بسبب اعتزاله، إلى اتّباع مرجعية مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي لأنه «الأجدر والأكفأ على قيادة الأمة» كما ورد في فتوى الحائري.
إنَّ هذا الموقف من الحائري ضد مقتدى الصدر ليس الأوّل من نوعه، فقد سبق له أن أسقط «وكالته الشرعية» عن الصدر وسحبها منه على خلفيّة مواجهات قادها التيار الصدري ضد رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي سنة 2011، كما كان له موقف مماثل ضد احتجاجات قادها التيار سنة 2016.
بلغة التفاصيل، نعلم أن الصدر، بعد ردِّه الأوّلي الغاضب على فتوى الحائري، وتشكيكه في أن يكون قد أصدرها بمحض إرادته، بما يعنيه ذلك من احتمالات وقوع المرجع تحت ضغط إيراني، عاد وطلب من أنصاره الانسحاب من المنطقة الخضراء في غضون ستين دقيقة، وكرّر قوله إنه اعتزل العمل السياسي لأن المرجع أمر بذلك. ومن المرجّح أن نتائج أخرى قد تتمخّض مستقبلاً عن فتوى الحائري منها ضمور وتراجع دور المرجعية الأصل في مدينة النجف حيث بدأ التشيّع عربياً عراقياً، واحتمال انتقالها إلى مدينة قم الإيرانية.
لقد كان تنفيذ قرار الصدر من قبل أنصاره في بغداد فورياً وسريعاً، فلم يستغرق الستين دقيقة، ولكنه لم يلامس أو يحل جذور الأزمة ويقطع الطريق على صدامات مسلحة محتملة جديدة، بل إن اشتباكات حدثت في اليوم التالي في مدينة البصرة، سقط فيها قتلى وجرحى، ولكن تمت السيطرة عليها. وبهذه التطورات يكون العراق قد شهد نقلة نوعية في شكل وماهية الصراع والتنافس بين أحزابه السياسية المتنافسة.
لقد بدأ هذا الصراع منذ قيام منظومة الحكم الحالية التي هندسها خبراء الاستراتيجية الأميركية بعد احتلال العراق سنة 2003، واتخذ أشكالاً مختلفة الحدة، ولكنه مع هذه النقلة تحوّل من صراع وتنافس على مغانم الحكم ومراكز السلطة والقرار بين أحزاب ممثلي المكوّنات (الطوائف والعرقيات)، إلى صراع وتنافس بين أحزاب الطائفة الكبرى المهيمنة على الحكم (الشيعية) وداخل حاضنتها المجتمعية. لقد انقسم الإسلاميون الشيعة على محورين رئيسين هما التيار الصدري الذي يحاول الانفراد بتمثيل الطائفة الكبرى وتشكيل تحالف أغلبي مع ممثلي المكونَين الآخرين، الكرد والعرب السنة، من جهة، والإطار التنسيقي الذي ضمَّ ما تبقّى من أحزاب وميليشيات شيعية أخرى. وإذا كان تدخّل الصدر السريع الأخير قد فاجأ حتى أنصاره الذين لم يسلموا من توبيخه، لكنه أوقف شلال دم كاد يُغْرِقُ العراق، غير أنه لم يوقف سيرورة التدهور، ولم ينهِ ما سُمِّي «الانسداد السياسي» الذي تلا الانتخابات المبكرة الأخيرة وها هو يقترب من إكمال عام كامل، وينذر بوقوع صدامات جديدة ربما تكون أخطر وأقسى من سابقاتها.
صراع غنائمي بين أحزاب الفساد
بعد هذه النّقلة، انكشف الصراع على حقيقته، التي لم تكن خافية تماماً، بوصفه صراعاً غنائمياً بين أحزاب وميليشيات طائفية مذهبية مسلحة بالصواريخ والفتاوى الدينية تصول وتجول في دولة ناقصة السيادة مثلومة الاستقلال ينخرها الفساد. فهذا الصراع كان يدور على أرضية طائفية صريحة، وبأفق سلفي ديني، وبهدف مصلحي معلن هو الحفاظ على هيمنة الطائفة الكبرى على الحكم وغنائمه تحت شعارات مذهبية صريحة، بعيداً عن أية انشغالات وأهداف استقلالية تناهض الهيمنة الأميركية والتدخلات الأجنبية وتعمل على إنهائها وطرد القوات الأجنبية من العراق، وهو الأمر الذي تسكت عليه اليوم زعامات الفريقين الشيعيين المتصارعين على السلطة. إنّ هذه الحالة المتفاقمة هي من مُنتج مباشر للتوافق الأميركي الإيراني على حكم العراق بالمحاصصة الطائفية وعبر أحزاب الفساد التي ظلّت تصر على إبقاء العراق كدولة تعيش حالة موت سريري، «دولة» عاجزة وممنوعة حتى عن حماية سماء البلاد بمنظومة دفاعية وشبكة رادارات بسيطة تملكها أكثر الدول فقراً، أو عن التحكم بمواردها المالية النفطية الضخمة!
لقد دفعت موازين القوى والترتيبات الفتوائية والضغوط الخارجية الصدر إلى اتخاذ قراره بسحب أنصاره ومقاتليه هذه المرة من الميدان، ولكن هذا ليس ضماناً بعدم اندلاع معركة أخرى أعنف وأقسى وأكثر تدميراً مستقبلاً، فأسباب المعركة السابقة لا تزال قائمة، ولا يمكن اختزالها واستسهال تفسيرها بشائعات وتخمينات حول انقلاب صدري تم إجهاضه، أو تحريض خليجي عبر شاشات التلفزيون، بل بتفكيك أسس وركائز وأهداف المنظومة الحاكمة نفسها. إن هذه الأسباب والحالات الصراعية الخطرة لن تزول إلا بزوال منظومة حكم المحاصصة الطائفية وإنهاء العملية السياسية الأميركية التي أوجدتها وإطلاق عملية سياسية وطنية عراقية لا تعادي إيران ودول الجوار، ولكنها ستنهي كل تدخلاتها في الشأن العراقي وحمايتها لحكم الفساد والتبعية!
متاهة الدستور الاحتلالي
إن المنظومة الحاكمة وأساسها الدستوري هي بمثابة متاهة عويصة ومعقّدة لا يمكن الخروج منها إلا بتفكيكها أو كسرها. وبهدف توضيح دور الدستور الحالي في التسبب بهذه الفوضى الهائلة والانهيار الشامل والاقتتال الدوري بين الفرقاء سنضرب مثالين واضحين على أسس وركائز هذه المتاهة الدستورية المقصودة؛ الأوّل يتمثّل في المادة 70 من الدستور والتي تجعل من شبه المستحيل على أي طرف يفوز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية تشكيل حكومة أغلبية، وتدفعه دفعاً لتشكيل حكومة توافق مشلولة يشارك فيها جميع مكوّنات المشهد السياسي العراقي.
إنَّ هذه المادة تشترط حضور ثلثي أعضاء البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية الذي يكلِّف المرشح لرئاسة مجلس الوزراء، بمعنى أنه لا معنى لفوز أي طرف أو حزب سياسي بالكتلة النيابية الكبرى لأن الطرف الذي يملك الثلث المُعَطِّل سيُفْشِل محاولته حتى ولو فاز بأكثر من نصف مقاعد مجلس النواب. وهذا ما حدث بعد فوز التيار الصدري بثلاثة وسبعين مقعداً وتشكيله للتحالف الثلاثي مع حزب البارزاني، وله 32 مقعداً، وحزبي العرب السنة، ولهما 58 مقعداً، الذي قاربَ عملياً نصف نواب البرلمان الذي يضم 329 نائباً، ولكن ذلك لم يكن كافياً لتمرير حكومة التحالف الثلاثي بسبب تشبّث قيادات الإطار التنسيقي بالثلث المعطِّل، وهنا بدأت حالة «الانسداد السياسي» بمصطلحات أهل النظام، والذي سمَّيناه بدء عمل «المتاهة الأميركية»!
دفعت موازين القوى والترتيبات الفتوائية والضغوط الخارجية الصدر إلى اتخاذ قراره بسحب أنصاره ومقاتليه هذه المرة من الميدان، ولكن هذا ليس ضماناً بعدم اندلاع معركة أخرى
أمّا «الكمين» الدستوري الثاني في هذه المتاهة فهو الذي يجعل من شبه المستحيل تعديل الدستور ذاته تعديلاً جذرياً يفكّك الاستعصاءات الناتجة عن تطبيقه، والسبب هو وجود ما يشبه الفيتو بيد زعامات المكوّنين الكردي والعربي السني. فالمادة 141 رابعاً، توجب حصول أي استفتاء على تعديلات دستورية على موافقة ثلثي الكتلة الناخبة في ثلاث محافظات (هي أربيل ودهوك والسليمانية ذات الغالبية الكردية، والموصل والأنبار وصلاح الدين ذات الغالبية العربية السنية)، فإن لم يحصل عليها سقط التعديل. تقول هذه المادة حرفياً: «يكون الاستفتاء على المواد المعدّلة ناجحاً بموافقة أغلبية المصوّتين، وإذا لم يرفضه ثلثا المصوّتين في ثلاث محافظات أو أكثر». ومعنى ذلك واضح وبسيط، فأي تعديل دستوري لا يعجب الزعامات الكردية أو العربية السنية سيجعلها تُسْقِط التعديل بأن تدفع قاعدتها الانتخابية في المحافظات الثلاث للتصويت ضده في الاستفتاء.
لكن، من وجهة نظر الفقه الدستوري، هل يمكن اعتبار الدستور العراقي النافذ دستوراً طائفياً فعلاً، أم أنه دستور مكوّناتي؛ وما الفرق بين المصطلحين؟
يكرر بعض الكتاب والباحثين، وآخرهم عزمي بشارة، أن هذا الدستور «ليس دستوراً طائفياً، غير أن الأحزاب الطائفية شوّهته وجعلته أسوأ من الدساتير الطائفية التوافقية في الممارسة» (تصريحات لموقع «ألترا عراق»). وهذا كلام يكرره بعض الكتاب العرب والأجانب الذين يجهلون التفاصيل الدقيقة والخاصة عن الوضع العراقي فيكررون مثل هذه الكليشيهات الصحافية والأحكام السطحية الباترة، وهو كلام مناقض لواقع حال الدستور العراقي. دعونا نغض الطرف عن أن اعتراف بشارة بوجود أحزاب طائفية حاكمة هو دليل عملي على أن الدستور الذي سمح لهذه الأحزاب والميليشيات بهذه الهيمنة إنما هو دستور طائفي، ولنحاول تفحص هذا الدستور من داخله، فماذا نجد؟
– «وتلبيةً لنداء وطننا ومواطنينا، واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية وقوانا الوطنية وإصرارِ مراجعنا العظام وزعمائنا وسياسيينا»…
– «مستذكرين مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة المستبدة ومستلهمين فجائعَ شهداءِ العراق شيعةً وسنةً، عرباً وكرداً وتركماناً، ومن مكوّنات الشعب جميعها،
– ومستوحين ظُلامةَ استباحة المدن المقدسة والجنوب في الانتفاضة الشعبانية ومكتوين بلظى شجن المقابر الجماعية والأهوار والدجيل وغيرها،
– ومستنطقين عذابات القمع القومي في مجازرِ حلبجةَ وبرزانَ والأنفال والكرد الفيليين، ومسترجعين مآسي التركمان في بشير، ومعانات (والصحيح: معاناة) أهالي المنطقة الغربية كبقية مناطق العراق من تصفية قياداتها ورموزها وشيوخها وتشريد كفاءاتها وتجفيف منابعها الفكرية والثقافية».
– أمّا المادة الثالثة، فقد تكفّلت بإلغاء هوية العراق الحضارية العربية واعتباره بلداً «متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسّس وفعّال في الجامعة العربية». وهذه هي المرة الأولى في التاريخ العالمي التي يتم فيها شطب هوية شعب وبلد، لأن فيه أقليات لا تتجاوز نسبتها كلها 15% من مجموع السكان، ويتم إعلاء شأن إحدى القوميات – الكردية تحديداً- والسماح لها بإقامة كيان أقرب إلى الدولة المستقلة بدستور وعلم وبرلمان ورئيس منه إلى الإقليم الاتحادي (الفيدرالي) في مقابل ذلك؛ أقول هذا رغم أنني من المدافعين بثبات عن المبدأ الأممي الإنساني في حق الأمة الكردية في تقرير مصيرها بنفسها كسائر أمم الكوكب، وقلتُ «حق الأمة» وليس «حق ميليشيات» إقطاعية تتعامل مع الكيان الصهيوني.
– المادة 9 أولاً: أ – تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكوّنات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها.
– المادة 12 أولاً: يُنظم بقانون علم العراقٍ وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكوّنات الشعب العراقي.
– المادة 49 أولاً: يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، يتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكوّنات الشعب فيه.
– المادة 142 أولاً: «يشكّل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكوّنات الرئيسية في المجتمع العراقي مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب، خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور. وتحلّ اللجنة بعد البت في مقترحاتها». إن هذه المادة لم توضع موضع التطبيق أبداً، وهي مادة أضيفت بضغط من الحاكم الأميركي بول بريمر بعد رفض الساسة العرب السنة لصيغة الدستور الحالية وقرروا عدم المشاركة في العملية السياسية كلها في البداية، فقيل لهم إن هذا الدستور سيتم تعديله بمشاركتهم خلال أربعة أشهر، ولكنّ التعديلات التي عملت عليها اللجنة لم ترَ النور أبداً، وتم حل اللجنة أو أنها ماتت موتاً طبيعياً بنهاية الدورة النيابية الأولى بين سنتي 2005 و 2009، بعد أن تأكد للجميع أنها كانت مجرد خدعة سياسية انطلت على الساسة العرب السنة الذين سكتوا عن ذلك وانغمروا في العملية السياسية الأميركية في ما بعد كغيرهم!
– أضِف إلى ذلك موادّ أخرى تتعلق بتسهيل تحويل العراق إلى أقاليم طائفية وإثنية شبه مستقلة عملياً، رغم أن الدستور يشترط أن تكون جغرافية، وهذه مجرد حذلقة تبريرية لم تمنع قيام إقليم قومي كردي، والدعوات المتكررة لإقامة إقليم سني وآخر شيعي هما قائمان فعلاً على أرض الواقع وغير معلنين بفضل هذا الدستور!
إنَّ المواد الخاصة بتشكيل الأقاليم تجعل تشكيل الأقاليم أسهل من عملية تأسيس جمعية خيرية أو نادٍ لكرة القدم؛ فالمادة 119/ أولاً، تسمح بقيام إقليم بطريقتين؛ الأولى «بطلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم». وثانياً: بطلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، نعم؛ عشر الناخبين ثم يجري استفتاء عليه! ثم إن المادة 120 تسمح للإقليم بوضع دستور له، يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، والمادة 121 تعطي الحق لإدارة الإقليم في «ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لأحكام هذا الدستور»، ومع ذلك فقد أفشلت المحاولات السابقة لإقامة أقاليم من قبل الشارع العراقي بالدرجة الأولى حيث ظهر واضحاً أن الرأي العام العراقي بدأ يدرك خطورة هذا المسعى التفكيكي للدولة والمجتمع.
أمّا الطامة الدستورية الكبرى، فتكمن في المادة 115 والتي تنص على الآتي: «كل ما لم يُنَص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما». وهذه المادة واضحة جداً فهي تعطي اليد العليا أو ما يسمى مبدأ «السمو الدستوري» للإقليم وليس للدولة العراقية الاتحادية، فحين تختلف إدارة الإقليم مع الحكومة العراقية الاتحادية حول قضية أو قرار ما ولا يتم التوصل إلى حل، تكون الكلمة الأخيرة لقرار وحكم إدارة الإقليم وليس لدولة العراق، وهذا اختراع جديد لمن كتبوا هذا الدستور من حلفاء الاحتلال الأميركي لم يسبقهم إليه أحد في تاريخ الدول والدساتير في العالم المعاصر!
فهل يمكن القول، بعد كل ما تقدّم، إنَّ الدستور العراقي غير طائفي، أم أنه أسوأ من ذلك بكثير لأنه دستور طائفي وعرقي معاً؟