أحمد عزام
بين القصور الجورجية في لندن والغرف المغلقة في جنيف، يدور حوار لم يُعلن صراحة، لكنه يُعيد رسم ملامح القوة في القرن الـ21. فبعد جولتين ماراثونيتين من المفاوضات التجارية، أعلنت واشنطن وبكين التوصل إلى إطار جديد لإحياء تدفقات «البضائع الحساسة»، ضمن ما بات يُعرف بـ«توافق جنيف»، بانتظار توقيع دونالد ترامب وشي جي بينغ.
في الظاهر: اتفاق تجاري جزئي. في العمق: معركة تقنية واقتصادية على مستقبل النفوذ العالمي، حيث تتحوّل الرقائق والمعادن الأرضية النادرة إلى أسلحة دبلوماسية، لا تقلّ فتكًا عن الحروب العسكرية.
من يربح ومن يراوغ؟
• الصين تعهّدت بتسريع شحنات المعادن النادرة، الضرورية لصناعة الدفاع والسيارات الكهربائية الأميركية.
• أميركا وعدت بتخفيف القيود على تصدير البرمجيات والشرائح المتقدمة، التي كانت تُستخدم كورقة ضغط ضد بكين.
• لكن… لا تزال قضايا فائض التجارة، والدعم الصناعي، و«إغراق السوق» خارج التفاهم.
وبينما قيل إن المحادثات كانت «صريحة وعميقة»، فإن التفاصيل كانت شحيحة، وكأن الطرفين اتفقا على الالتقاء في منتصف الجسر، من دون تحديد الجسر ذاته.
المعادن النادرة: الورقة التي لم تعد نادرة
في السنوات الأخيرة، أصبحت الصين تسيطر على نحو 70% من صادرات المعادن الأرضية النادرة عالميًا. هذه العناصر، التي تحمل أسماء غريبة مثل «النيوديميوم» و«الديسبروسيوم»، تُستخدم في كلّ شيء من محركات الطائرات إلى أنظمة التوجيه في الصواريخ.
وحين بدأت بكين بتقييد هذه الصادرات في الأشهر الماضية، أصيبت الصناعات الغربية بالذعر؛ ليس لأن العالم لا يملك البدائل، بل لأن الصين تحتكر «سلسلة التوريد» وليس فقط الموارد.
في المقابل، سعت واشنطن إلى خنق الصين عبر تقييد صادرات البرمجيات والرقائق الدقيقة، خاصة تلك المستخدمة في الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الجيل الخامس.
المفارقة؟ كل طرف بحاجة للآخر بأكثر مما يعترف. ولهذا جاءت صفقة المعادن مقابل الرقائق. الاعتمادية من الطرفين مهّدت الطريق.
هل بات الأمن القومي قابلًا للتفاوض؟
ما يثير القلق في هذا الاتفاق هو أنه يضع أدوات الأمن القومي، مثل تكنولوجيا الرقائق الحساسة، في سلّة التفاهمات التجارية. هذا خرق لقواعد اللعبة القديمة.
لأوّل مرّة، تسمح واشنطن لنفسها باستخدام التكنولوجيا كـ«رقاقة مقايضة»، رغم تبريرها السابق بأن القيود كانت لحماية الأمن القومي.
هل هذا يعني أن الأمن القومي لم يعد خطًا أحمر أم أن الضرورات الجيوسياسية تبيح اللعب بأوراق محظورة؟
الأسواق تحت المجهر: لا ثقة قبل التوقيع
رغم النبرة الإيجابية، لم تكن الأسواق متحمسة جدًا:
• العقود الآجلة للأسهم الأميركية انخفضت قليلًا.
• اليوان لم يتحرك كثيرًا.
• المؤشر الصيني الرئيسي ارتفع 0.9% فقط.
بمعنى آخر: الأسواق تنتظر الأفعال، لا التصريحات. وطالما لم يوقّع ترامب وشي، فإن كل ما قيل يظل في خانة الممكن لا المؤكد. فالأسواق سئمت التصريحات والتواريخ المؤجلة؛ وتنتظر الأفعال.
ما بعد الاتفاق: 60 يومًا لاختبار النوايا
الاتفاق الحالي ليس إلا استراحة قصيرة في حرب تجارية طويلة. فالأيام الستون المقبلة ستشهد:
• تفاهمات حول الإنتاج الصناعي الفائض.
• نقاشات حادّة حول الممارسات غير العادلة.
• وربما، فصلاً جديداً في أزمة الفنتانيل، التي ترى فيها واشنطن سببًا لفرض رسوم جديدة.
ووسط كل هذا، يبقى السؤال:
هل ما يحدث هو هدنة موقتة أم بداية لإعادة تعريف العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم؟
قد يبدو أن اتفاق عام 2018 هو مرآة الواقع الحالي، أي أن الاتفاق مهما دام فقد يبدو موقتاً بنهاية عهد رئيس.
رقصة الطاووس: الدبلوماسية على طريقة 2025
وصف أحد الأكاديميين الصينيين هذه المحادثات بأنها «رقصة طاووس» مبهرة من بعيد، لكنها محكومة بحركات متكررة.
ومع أن الصفقة الحالية قد تفتح بابًا للتنسيق بدل التصادم، فإن هشاشتها واضحة. فقد استغرق الأمر 3 وزراء أميركيين ونائب رئيس وزراء صينياً و20 ساعة من المفاوضات للعودة إلى النقطة التي انتهت بها اتفاقية جنيف قبل أسابيع.
ربما ما تغير ليس التفاهم، بل النبرة. ومعها، نكتشف أن أكثر ما خسرته الحرب التجارية لم يكن المال، بل الثقة.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار