لندن | منذ أن أنتجت مصر أول أفلامها السينمائيّة الناطقة (ليلى – 1927) وحتى عقد التسعينيات من القرن الماضي، هيمنت هوليوود الشرق بشكل شبه كليّ على المشهد البصري في كل أرجاء العالم العربيّ، في وقت كانت فيه الأفلام أداة التعبير الثقافيّ الأوسع تأثيراً في أجواء الطبقات الشعبيّة والطبقة الوسطى الصاعدة.
يمكن للمؤرخ تلمّس التحولات في الخطاب السياسيّ الرسمي المصري (الملكيّة الليبراليّة الخاضعة للهيمنة البريطانية، جمهوريّة الثورة واشتراكيّة ناصر، انفتاح دولة كامب ديفيد السادات، ومرحلة التكلّس المتدرج في عهد حسني مبارك) وانعكاساتها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافيّ للبلاد من خلال استطلاع التطورات التي عاشتها صناعة الأفلام المصريّة. بعد فورة الإنتاج المحليّ المحترف في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين من خلال «ستوديو مصر» الذي كان أحد تمثلات رؤية رائد الاقتصاد المصري الحديث طلعت حرب (1867 – 1941)، دخلت السينما المصريّة في عهد الثورة ما يمكن وصفه بعصرها الذهبي. أصبحت ـــ من حيث حجم الإنتاج (في عقد الخمسينيات) ـــــ ثالث أكبر صناعة سينمائيّة في العالم وفق الـ«إيكونوميست». ومع تأميم الصناعات المصريّة في بداية عقد الستينيات، تحوّل الإنتاج السينمائي إلى قطاع عام بما يعنيه ذلك من التزام بالتوجهات الرسميّة للدولة، لناحية المضمون مع توافر إمكانات أفضل لناحية الشكل. ومع أنّ مؤرخي السينما المصريّة، الذين أتوا لاحقاً، اتهموا الناصريّة بإدارة الإبداع لخدمة السياسة، إلا أنّ عدداً من أهم الأفلام المصريّة على الإطلاق أُنتجت في تلك الفترة («رد قلبي»/ 1957، «باب الحديد»/ 1958، و«البوسطجي»/ 1968…) ناهيك بالأعمال التاريخيّة الكبرى («المماليك»/ 1965، «خالد بن الوليد»/ 1958 …) والاقتباسات من الأدب العالمي («هذا الرجل أحبّه»/ 1962 عن رواية شارلوت برونتي…). صدمة هزيمة 1967 فرضت انكماش السيطرة الرسمية على صنّاع الأفلام الذين عبّروا عن مرحلة فقدان الوزن تلك بأعمال غلبت عليها الإيحاءات الجنسيّة والعنف والسوداويّة.

البوسترات الأولى أنجزها حرفيون يونان وفرنسيون وأرمن قبل أن يخرج جيل من الرسامين المصريين الذين طوّروا فناً مستقلاً عن استوديوات الإنتاج

بعد غياب ناصر، وصعود الساداتية التي أنهت التجربة الاشتراكيّة، أتقنت سينما مصر السبعينيات لعبة المواربة في الطرح بين الترفيه والطرح السياسي، قبل أن تدخل مرحلة الغروب في عهد حسني مبارك البطيئة والمملّة عندما تحولت الصناعة برمتها إلى أفلام «مقاولات» تعتمد التهريج الرخيص عديم الخيال ضمن خطوط محافظة فرضها الممولون الخليجيّون.

والمؤسف أن غالبيّة الإنتاجات المصريّة (تقدّر بـ 3000 فيلم وتشكّل أكثر من ثلاثة أرباع الأفلام التي أنتجها العالم العربي خلال القرن العشرين) تاهت في غياهب التاريخ، ولا تتوافر منها نسخ في الفضاء العام لأغراض الدراسة والبحث والتأريخ، ولا سيما تلك التي أنتجت بتقنيات قديمة في مرحلتَي التأسيس والعصر الذهبي.

الكتاب الجديد الصادر في لندن بعنوان «أفلام في لوحات» (دار سنتر سنتر ــــ 2023)، يؤرخ بصرياً لظاهرة فنيّة وثقافيّة صاحبت تعاقب مراحل صناعة السينما المصريّة، وتمثلت في تلك «الأفيشات» (كلمة مشتقة من الفرنسيّة) أي الملصقات المصاحبة للأفلام (سواء تلك التي تستخدم في الإعلانات على أسطح المباني أو تلك الأصغر لواجهات وأروقة دور العرض)، وربما تكون اليوم كل ما تبقّى من بعض تلك الأفلام.
البوسترات الأولى التي صُنعت غالباً بالطباعة الحجريّة، كانت نتاج حرفيين يونانيين وفرنسيين وأرمن قبل أن يتتلمذ على أيديهم جيل من الرسامين المصريين الذين طوّروا فناً موازياً مستقلاً عن استوديوات الإنتاج ما لبث أن أصبح جزءاً لا يتجزأ من أثاث الشارع في مدن مصر والعالم العربي، ونافذة قريبة تطل على أشواق الطبقات الشعبيّة وأحلامها وشخصياتها الأكبر من الحياة.

كانت الأفلام أداة التعبير الثقافيّ الأوسع تأثيراً في الطبقات الشعبيّة والطبقة الوسطى الصاعدة

يضم الكتاب الذي أتى بحجم كبير وورق فاخر حوالي 200 ملصق لأفلام من مختلف المراحل استعيدت بدقة لافتة، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية الأرشيفيّة لواجهات الصالات السينمائية وقد تزيّنت بـ «الأفيشات»، إضافة إلى ثلاث مقالات قصيرة تعريفيّة بصناعة «أفيش الفيلم المصري» لكل من جوزيف فهيم (مؤرخ وناقد سينمائي مصري)، وهيثم نوّار (رئيس قسم الفنون في الجامعة الأميركية في القاهرة)، وكريستيان غروبر (أستاذة الفن الإسلامي في «جامعة بنسلفانيا» الأميركيّة).

يلحظ الكتاب أن تلك «الأفيشات» شكّلت، عبر عقود، أكثر من مجرّد أدوات دعاية للأفلام، بل استحالت جزءاً لا يتجزأ من إحساس أجيال من المصريين بحياتهم وهويتهم وثقافتهم وصراعاتهم الاجتماعيّة، وتابع الملايين بلهفة واهتمام التنافس في إصداراتها الجديدة التي كانت أحياناً أهم من الأفلام نفسها. وبحكم أن هذه الصناعة الموازية للسينما كانت في يد قنوات التوزيع لا استوديوات الإنتاج، فإنّ الدّقة في التعبير عن مضمون الأفلام، لم تكن أولوية بقدر ما كان السعي إلى تعظيم الإثارة واستقطاب المشاهدين، كما أنها قدّمت بوسترات للعديد من الأفلام العالمية (الأجنبيّة) بعد ظهور شركات إضافة نصوص الترجمة إلى الشاشة بدايةً من الأربعينيات.

دخلت السينما المصريّة في عهد الثورة ما يمكن وصفه بعصرها الذهبي

ويبدو أنّ الثيمة الغالبة على أفيشات أفلام مرحلة التأسيس كانت – إلى جانب فنون الخط العربي (مع لغة أجنبيّة) – التركيز على رسم وجوه الشخصيات الرئيسة (كالمغنين المشهورين محمد عبد الوهاب وأم كلثوم…)، لتبدأ لاحقاً مرحلة رسم أحد المشاهد المختارة من الفيلم، وبعدها ظهور الصور الفوتوغرافية لوجوه الأبطال على هوامش تلك المشاهد.
«أفلام في لوحات» رحلة ساحرة إلى عالم ملوّن، تُلهب نوستالجيا الأجيال العتيقة، وتقدح خيال الأجيال الجديدة، وتستكمل بصرياً قطعاً مهملة من فسيفساء التاريخ العربي خلال القرن العشرين.