يُحكى أنه في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان حكم المغول الهند، وهناك رسّخوا أركان دولتهم وأصبحوا من أعظم الإمبراطوريات التي حكمت البلاد في حقبة العصور الوسطى، وتركوا إرثًا تاريخيًا هائلًا استمر حتى اليوم، ولذلك ارتبط المغول ارتباطًا وثيقًا لا ينفصل، بتاريخ الهند وثقافتها، بداية من الفنون وحتى الهندسة المعمارية.
وخلال عام 1628 تولى السلطان شاه جهان حكم البلاد، وفي فترة حكمه المزدهرة زيّن الهند بمجموعة من المنشآت المعمارية المميزة مثل ضريح تاج محل الشهير، والذي استمرت فترة بنائه طوال 22 عامًا، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن السلطان شاه جهان بنى صرحًا هندسيًا مميزًا آخر كان له تاريخ مثير، هذا الصرح هو عرش الطاووس العظيم.
شاه جهان و«عرش الطاووس» الذي لم يُشهد له مثيل
ولد شهاب الدين جهان ثالث أبناء السلطان جهانكير وأقواهم جميعًا، عام 1592 وكانت أمه هندوكية. اتصف شاه جهان برجاحة العقل والذكاء والعزيمة حتى أن جده جلال الدين أكبر كان شديد الاعتزاز به، وعلى عكس أبيه وإخوته الأمراء عُرف شاه جهان بعزوفه عن شرب الخمر وابتعاده التام عن حياة اللهو والعبث.
وبسبب كفاءته العالية وقدراته القتالية وحنكته، أنعم عليه والده بلقب شاه جهان وعهد إليه بإدارة حكومة الدكن في جنوب الهند، وحين مات والده السلطان جاء شاه جهان مسرعًا إلى مدينة أكرا ليتولى الحكم، وبعد أن وصل إلى عرش الإمبراطورية، شرع ببناء الكثير من الآثار التي خُلدت على مدار التاريخ، منها عمائر مدينة دلهي الجديدة والقلعة الحمراء والمسجد الجامع ومسجد اللؤلؤ وضريح تاج محل الشهير، الذي بناه إكرامًا لزوجته ممتاز محل، التي وافتها المنية أثناء ولادة طفله الرابع عشر.
بجانب كل تلك الآثار المعمارية المميزة؛ بنى شاه جهان عرشه الفخم الذي عُرف لاحقًا باسم «عرش الطاووس». وقد رُصع هذا العرش بأكداس من الجواهر النادرة وكانت قوائمه من الذهب الخالص أما سقفه المُطلى بالميناء فقد حُمل على 12 عمودًا من الزمرد، على كل واحد منها طاووسان تزينهما الجواهر وتتوسطهما شجيرة يغطيها الياقوت والماس والزمرد، وقد استغرق بناء هذا العرش سبع سنوات وبلغت تكلفت بنائه ضعف تكلفة تشييد تاج محل.
وقد جلس شاه جهان على عرش الطاووس للمرة الأولى في 22 مارس (آذار) عام 1635 وذلك احتفالًا بالذكرى السابعة لتوليه الحكم، وقد اختير هذا التاريخ تحديدًا من قبل المنجمين، إذ اعتبروه يومًا مباركًا لأنه تزامن مع عيد الفطر ونهاية شهر رمضان، وقبل شاه جهان لم يجلس أحد أبدًا من سلالته على عرش بتلك الفخامة، فوالده جهانكير كان يجلس على عرش شديد البساطة، عبارة عن لوح مستطيل من البازلت الأسود المحفور، أما الابن فقد شيد لنفسه عرشًا لم يشهد التاريخ له مثيلًا.
«عرش الطاووس» وبداية عهد الانقلابات
بعد عدة سنوات اضطربت أحوال البلاد وانصرف شاه جهان عن تدبير أمور مملكته تاركًا الأمر لأبنائه؛ دارا شكوه وشجاع ومراد يخش وأورنجزيب. وقد كان شجاع وقتذاك يتولى إمارة البنغال في حين حكم مراد يخش إمارة الكجرات أما أورنجزيب فقد كان مثل ابيه حاكمًا لإمارة الدكن، وخلال عام 1657 انقلب الابن الأكبر دارا شكوه على والده السلطان شاه جهان واعتقله وجلس على عرش الطاووس.
ولكن إخوته لم يرضوا بما حدث، فترك كل منهم إمارته لمحاربة الأخ الأكبر ودارت بين الإخوة معارك طاحنة في ظل ظروف سيئة للغاية كانت تمر بها البلاد، إذ عم القحط الشديد بسبب توقف الأمطار الموسمية. وفي نهاية الأمر انتصر أورنجزيب الأخ الرابع على إخوته ثم قتلهم جميعًا بعد أن أفتى له العلماء بضرورة ذلك، بعدها جلس أورنجزيب على عرش الطاووس وسجن والده في قلعة أكبر آباد التي ظل محبوسًا فيها حتى وفاته عام 1666.
وبسبب ما فعله مع إخوته وأبيه كان أورنجزيب منذ أول عهده على حذر تام من أبنائه، حتى أنه لم يتردد في إلقاء ابنه الأكبر سلطان في السجن حتى مماته، كما سجن ابنه مُعظّم لمدة ثماني سنوات، وحتى ابنته زيب النسا التي كانت شاعرة موهوبة لم تسلم منه، إذ وافاها أجلها هي الأخرى في السجن بسبب تعاطفها مع أخيها الأكبر سلطان.
«أستخلصه لنفسي».. الكل يقتتل من أجل العرش!
بعد وفاة أورنجزيب قامت الحروب بين أبنائه، وقد هدف كل منهم استخلاص العرش لنفسه، فنادى مُعظّم بنفسه سلطانًا، وكذلك فعل إخوته. وفي الوقت الذي كانوا يتقاتلون فيه كان الخطر البريطاني يحدق بهم من ناحية الشواطئ الشرقية.
بعد معارك طاحنة جلس بهادر شاه على عرش الطاووس واستمر حكمه أربع سنوات، إذ توفي خلال عام 1711، وكالعادة؛ تقاتل أبناؤه من بعده على العرش حتى وصل ابنه جهاندار إلى الحكم وجلس على عرش الطاووس (1712 – 1713)، ليأتي بعده فاروخسيار وجلس عليه ست سنوات، ثم حكم كل من السلطان رفيع الدرجات وشاه جهان الثاني بضعة أشهر فقط خلال عام 1719.
آنذاك؛ كانت إمبراطورية المغول آخذة في التدهور حتى وصل محمد شاه إلى السلطة وهي في عز ضعفها، ثم لم يلبث أن غزا الفرس البلاد، وانتقل عرش الطاووس «الملعون» من الهند إلى إيران.
رحلة «عرش الطاووس» من الهند إلى إيران
أقبلت على الهند كارثة مروعة تجسدت في موكب نادر شاه، ملك فارس الذي كان طموحًا للغاية. إذ أوصله طموحه ودهاؤه إلى الجلوس على عرش الصفويين بإيران، ليتجه بعد ذلك إلى توسيع ملكه ناحية الهند، وفور وصوله إلى الأراضي الهندية وقعت أحداث معركة كرنال على حدود البنجاب عام 1739، ولم تستغرق المعركة سوى ثلاث ساعات مُني فيها السلطان المغولي محمد شاه بهزيمة مروعة.
بعد انتهاء المعركة؛ دخل جنود فارس مدينة دلهي وعاثوا فيها فسادًا وقتلوا من أهلها أكثر من 20 ألف شخص، ولم يرجع نادر شاه من الهند إلا بعد أن اغتصب عرش الطاووس لنفسه، وأرغم محمد شاه على التنازل عن أرض كبيرة من البنجاب تمتد من إقليم كشمير حتى ولاية السند مع تعويضات مالية كبيرة ومزيد من الجواهر والأحجار الكريمة؛ ومن أشهر الأحجار الكريمة التي نهبها نادر شاه كانت الإسبنيل السامري وياقوت تيمور.
لكن عرش الطاووس «الملعون»، جلب على نادر شاه، ما سبق وأن جلبه على أباطرة المغول، واغتيل نادر شاه على يد ضباطه عام 1747، واختفى عرش الطاووس، ووزعت ماساته وأحجاره الكريمة على رجال نادر شاه، ويُرجح أن العرش قد فُكك بسبب مقتنياته الثمنية وقواعده الذهبية.
هل تنتمي ألماسة كوهينور إلى«عرش الطاووس»؟
حصل أحمد شاه الدراني بعد انهيار نظام نادر شاه على ألماسة كوهينور (تعني جبل النور) والتي يقال إنها كانت ضمن جواهر عرش الطاووس الذي بناه جهان شاه. أسس أحمد شاه الإمبراطورية الأفغانية، وظل يرتدي تلك الماسة حتى سلمها بعد ذلك إلى الإمبراطور رانجينت سينج زعيم إمبراطورية السيخ مقابل أن يساعده في استعادة عرش أفغانستان.
وحين ضمت شركة الهند الشرقية مملكة البنجاب عام 1849 شقت ألماسة كوهينور طريقها نحو الخزائن البريطانية بموجب معاهدة لاهور التي نصت في أحد بنودها على تسليم الماسة إلى ملكة إنجلترا، وحتى يومنا هذا تعد ألماسة كوهينور قطعة مميزة للغاية من مجوهرات التاج البريطاني، وتزن حوالي 105 قيراط، ولا يوجد تأكيد على أن هذه الماسة تنتمي إلى عرش الطاووس، على الرغم من الخلاف التاريخي حول ملكيتها من قبل أربع دول من بينها الهند.
وقد حامت حول هذه الماسة الكثير من الأساطير التي تقول إن هذه الماسة ملعونة ولا يجب أن يرتديها إلا امرأة أو إله، وإذا حدث وتجرأ رجل على ارتدائها فستلاحقه اللعنات، وسيكون مصيره مرعبًا ومفعمًا بالعنف والقتل والغدر.
وتعود لعنة ماسة كوهينور إلى النصوص الهندية القديمة، إذ تقول الأسطورة «من يملك هذه الألماسة يملك العالم، ولكنه يلقى كل ما في العالم من المصائب. والإله فقط، أو امرأة فحسب، من يمكنهما ارتداء الألماسة من دون عقاب». وتجدر الإشارة إلى أن بريطانيا استوعبت أمر اللعنة جيدًا، فمنذ عهد الملكة فيكتوريا وحين أضحت الماسة الشهيرة في حوزتها؛ لم يرتدها منذ ذلك الوقت إلا الإناث من أفراد الأسرة الحاكمة.
وبعيدًا عن هذه الماسة ظل عرش الطاووس في السنوات اللاحقة لاختفائه؛ يُطلق على عرش الدولة الإيرانية الملكية حتى نهاية عهد سلالة الأسرة البهلوية، وذلك بسبب العرش الإيراني الذهبي الذي صُمم خلال القرن التاسع عشر محاكاةً للعرش الأصلي، وعلى الرغم من جمال العرش المقلد إلا أنه لم يضاه عرش الطاووس أبداً في تفرده، وترجح بعض المصادر التاريخية أن أرجل العرش الإيراني المقلّد هي نفسها أرجل عرش الطاووس القديم، لكن لا يوجد ما يثبت هذا الأمر.