كمال خلف
في اول لقاء بين مسؤولين امنيين فلسطينيين كبيرين مع نظرائهم الإسرائيليين بعد توقيع اتفاق اسلو والبدء بتنفيذه، اندفع احدهم نحو جنرالات إسرائيل بكلام عاطفي من قبيل “نحنا ولاد عم” بعد انتهاء الاجتماع نصحه الاخر وهو الأكثر خبرة ان لا يندفع بهذا الشكل راميا نفسه نحو الاسرائيليين لان هذا الأسلوب يحرق صاحبه.
ذكرتني هذه الحادثة وارويها لأول مرة. بزعيم الانقلاب الأول في سورية على الحياة السياسية الديموقراطية الوليدة ان ذاك العقيد ” حسني الزعيم ” تكشف الوثائق الامريكية السرية المفرج عنها عام ١٩٩٩، كيف بحثت الاستخبارات الامريكية عام ١٩٤٩ أي بعد حرب الإنقاذ عن شخصية عسكرية سورية لأحداث اول انقلاب في سورية لمصلحة إسرائيل ولهدف توقيع اتفاق الهدنة بعد الحرب، غابت سورية وحدها حينها عن مؤتمر ” رودس” الذي وقع فيه العرب جميعا اتفاقية وقف النار بعد الهزيمة امام العصابات الصهيونية في فلسطين، كما رفضت سحب الجيش السوري من مناطق شمال فلسطين. ووفق رسالة موجهة من البيت الأبيض للاستخبارات الامريكية مفادها “ان لم تكونوا قادرين على تغير الرقعة، فعليكم تغير اللاعبين” ومن المهم الإشارة هنا ان مضمون هذه الرسالة اصبح مبدأ عند الاستخبارات الامريكية حتى يومنا هذا.
وقع الاختيار على “حسني زعيم” حسب الوثائق الامريكية الذي قبل ان يكون الاعب الجديد لتلبية المطالب خلافا لارادة شعبه، ودعمت الاستخبارات الامريكية والحركة الصهيونية انقلاب الزعيم على الرئيس والحكومة المنتخبة في سورية في اذار عام 1949. لكن الرئيس الجديد لسورية ادهش الجميع وحتى الولايات المتحدة وإسرائيل في حجم انبطاحه واستعداده للذهاب بعيدا في المهمة. اذ لم يكتف بتوقيع اتفاق الهدنة وسحب القوات السوري ودفع اليهود السوريين للهجرة الى إسرائيل وضرب الأحزاب، واعتقال الوطنيين، بل ذهب الى حد اقتراح عقد قمة بينه وبين بن غوريون في دمشق او تل ابيب، وتوطين الفلسطينيين اللاجئين في سورية وعقد اتفاق سلام كامل مع إسرائيل. واستقبل الزعيم وزير خارجية إسرائيل ” موشي شاريت ” في دمشق سرا من اجل تحقيق هذه الغايات. أصاب الذهول كل من كان يعمل في حكومة حسني الزعيم، كما أصاب أصحاب القرار في واشنطن وتل ابيب. كان قائد الانقلاب المدعوم من أمريكا وإسرائيل يظن ان المبالغة في أداء المهمة التي جيء به من اجلها، يضمن له حكم سورية والحفاظ على كرسيه حتى نهاية حياته، ويعطيه الأفضلية في نظر الأمريكيين على كل منافسيه على السلطة. لكنه لم يحسب حساب الشعب والقوى الحية والوطنية التي تتعارض مهمة الزعيم مع مصالحها العليا. لكن الزعيم حينها ظن ان قوة واشنطن واموال الحركة الصهيونية هما الضمانة للاستمرار في الحكم وليس قوة الشعب. لكن مقامرة اللاعب انتهت بأسرع مما توقع، ولم يحكم سورية اكثر من خمسة اشهر، أطاح به انقلاب صيف عام 1949 وافضى الى مقتله. ذهب حسني الزعيم ابعد مما كان مطلوبا منه، ندمت المخابرات الامريكية على اختياره، واعتبرت انها تعاملت مع الشخص الخطأ. ليس حسني الزعيم النموذج الوحيد في هذا المضمار، ثمة نماذج أخرى في تاريخ الصراع العربي مع إسرائيل، اذ اصبح مبدأ ان لم تسطع تغير الرقعة قم بتغير اللاعبين مبدأ فعالا ومعتمدا عند الاستخبارات الامريكية والإسرائيلية في التعامل مع الدول العربية.
هذا المبدأ نراه يظهر الان مجددا في الحرب على غزة، فقد استعصت الرقعة ” الأرض” وتمكن المقاومون الفلسطينيون من افشال اهداف إسرائيل في غزة، وضاقت الخيارات لدى قادة تل ابيب، فبدأت الولايات المتحدة في البحث عن لاعبين جدد في الساحة الفلسطينية يحققون الأهداف في اللعبة السياسية. وإذ تحدثت الرئيس الأمريكي بايدن ووزير خارجيته بلينكن عن سلطة فلسطينية ” متجددة ” تفرض سيطرتها على الضفة وغزة، فان هذه إشارة كانت تكفي ليظن بعض المسؤولين في رام الله ان رحلة البحث عن لاعبين جدد لتنفيذ المهمة قد بدأت.
اكثر أولئك الطامحين لكرسي السلطة هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ” حسين الشيخ ” كل الساحة الفلسطينية تعلم ذلك. وحتى داخل حركة فتح والسلطة نفسها الحديث يدور عن طموح الشيخ لخلافة أبو مازن. حظوظ الشيخ ليست اعتمادا على تاريخه النضالي او إنجازاته، انما بسبب العلاقة الوثيقة التي يحرص عليها مع الإدارة الامريكية وإسرائيل.
يظن الشيخ ان واشنطن وتل ابيب أولا، وبشكل ثانوي بعض الأنظمة الرسمية العربية هي ضمانات حصوله على الكرسي. لم يحصل الشيخ على منصبه الحالي كرئيس للجنة التنفيذية للمنظمة التحرير بالانتخاب سواء من الفصائل المنضوية تحت مظلة المنظمة او من الشعب الذي تزعم المنظمة تمثيله، انما اخذ منصبه بالتعيين، وربما هناك من تدخل لاتمام ذلك، ويبدو الرجل مكروها في الأوساط الشعبية الفلسطينية، والنخبة الفلسطينية، وحتى من الفصائل الفلسطينية وحتى داخل حركة فتح نفسها. ولم يصدم تقرير مجلة ” الفورين بوليسي ” الامريكية عن تاريخ ” حسين الشيخ ” والذي احتوى فظائع وفضائح الفلسطينيين مطلقا.
الجديد هو تصريحات “حسين الشيخ” الأخيرة، فقد شطح فيها بعيدا جدا عن المهمة المطلوبة منه، وتوعد المقاومة في غزة بالمحاسبة، واثنى على اتفاق أوسلو جزئيا، واقر ان وظيفته التعامل مع إسرائيل لتخفيف معاناة الشعب حسب ما نقل عنه.
في رحلة بحثي عن تفسير هذه التصريحات في هذا الوقت، كانت اغلب الآراء من داخل البيت الفلسطيني تؤكد على جملة مشتركة تقول “ان الشيخ يقدم أوراق اعتماده للمرحلة الجديدة ” وهو يحاول ان يقول ان الأفضل اذا اردتم لاعبين ينفذون المهمة.
عاد الشيخ امس وتراجع خلال مقابلة مع “قناة الجزيرة” عن تصريحاته السابقة وقال انها حُرفت، ولا اعرف ان كانت وكالة ” رويتر” او قناة العربية ” من حرفوا سيل التصريحات تلك. ربما ادرك الشيخ انه تجاوز حدود المطلوب، او صدمته ردود الفعل الشعبية والسياسية الساخطة التي لم تنحصر بالشعب الفلسطيني وحده بل تعدته الى الشارع العربي. المستغرب ان ” محمود الهباش ” يعرفونه بانه مستشار الرئيس، واحيانا قاضي قضاة، واحيانا قاضي شرعي الخ، كرر ما قاله حسين الشيخ حرفيا على قناة العربية. تجمع الأوساط الفلسطينية المطلعة ان الهباش هبش تصريحات الشيخ وكررها فقط، وليس لديه اية طموحات، ولا قيمة فعليه له في المعادلة الفلسطينية.
أخيرا نقول على ” حسين الشيخ ” ان يقرأ رسالة حسني الزعيم، وان يعي حكاية نهايته. انا لم اؤمن يوما بالتصفية الجسدية، وانبذ هذا الشكل من التعامل في الخلاف السياسي، لكن التاريخ عندما يدون يكون اقسى من الموت نفسه.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم